(مجلة فتح العدد 766)
«أهلا وسهلا بكم في رحاب الجحيم». نطق بها المتحدث باسم سرايا القدس أبو حمزة. وظهرت ملامحها مع بداية الاجتياح البري لقطاع غزة، لتبدأ هنا، مرحلة جديدة من القتال، ومعها الحرب النفسية.
في الأيام الأولى للغزو البرّي، ساد الغموض والإحباط لقليل من الوقت، قبل أن تنطلق حرب العصابات بين أنقاض البيوت والخراب، مع بثّ متواتر لمشاهد العمليات الفلسطينية الفدائية، وتدمير يومي لناقلات الجند والجرّافات والدبّابات، بقذيفة التاندوم والياسين المحليّة الصنع، وأحياناً بوضع عبوة «العمل الفدائي» و«ثاقب» على جسم الدبابة نفسها، وقتل الجنود من مسافة صفر، وأخرى بكمائن مركّبة كما حدث في الشجاعية، واستمرار قصف الصواريخ إلى الداخل «الإسرائيلي» وصولاً إلى «تل أبيب» وما بعدها، ولا ننسى صوت صفارات الإنذار في القدس المحتلة برشقة صاروخية أرسلتها سرايا القدس.
المفاجأة غير المتوقّعة أنّ تدمير عشرات آلاف الوحدات السكنية، ومن بينها أبراج ومجمّعات، وهدم جامعات ومستشفيات ومساجد، وتفجير مبنى المجلس التشريعي، وصولاً إلى جرف مقابر، في غضون أسابيع قليلة، وإبادة عائلات بأكملها، وبلوغ أعداد الشهداء والجرحى أرقاماً قياسية، وتهجير كلّ أهالي القطاع إلى مناطق صغيرة تفتقر إلى كلّ عناصر الحياة، في جنوب القطاع قرب الحدود مع مصر، لم تكسر عزيمة القتال، بل استوعبت المقاومة الصدمة الشديدة التي تزيح الجبال عن مواضعها، وراح أداؤها العسكري والإعلامي يتصاعد تدريجياً بدل أن يتراجع وينحسر، وهو ما شكّل صدمة معاكسة للمجتمع «الإسرائيلي»، ليس لها نظير في التاريخ على مدى قرن كامل.
وقد يكون من المشاهد الأكثر إيلاماً من الناحية النفسية وضربت صدر العدو في مقتل، ذاك المقاتل الفلسطيني وفي قدميه «شبشب»، بلباس رياضي، وهو يطلق القذيفة على ميركافا بين الركام، أو أولئك المقاتلون الحفاة وهم يصعدون تلة ترابية، استعداداً للانقضاض على مواقع العدوّ. وناهيك عن تصوير الأسرى وهم يناشدون حكومتهم وقف إطلاق النار.
في المقابل، يوثق جيش الاحتلال عملياته «النوعية». ويقتحم بغطاء ناري مكثف شقة «فارغة». أو يطلق نيران رشاشاته الحديثة على «جدار مدرسة».. ويشتبك مع «حفرة» رملية.. ويصيبها «بدقة».. و«يجهز» عليها بقنبلة يدوية..فضلا عن اعتقال فلسطينيين من مدرسة إيواء أو ملعب وتصدير المشهد على أنهم من رجالات المقاومة.
بطولات هزلية وهمية جلّ ما يريد منها نتنياهو صورة نصر في غزة ولو كانت مزيّفة.لكنّ المقاومة ترفض بعنادها وأدائها المتقن منح عدوّها هذه الفرصة.
وأخيراً، وبما لا يقبل الشك حقّقت المقاومة التفوّق الإعلامي، من خلال بثّ تسجيلات متلاحقة للإعلام العسكري توثّق العمليات الهجومية في غزة، بشكل سريع وشبه فوري بما يعظّم من حجم التأثير لدى المتلقّي الإسرائيلي، في زمن مكثّف، وهو من قبيل الصدم والترويع، كما أثار التعاطف القويّ لدى المتلقّي المؤيّد لفلسطين أصلاً، وفي الجمهور الأوسع، لا سيما لدى الفئات الشبابية في المجتمعات الغربية. فصورة البطل تُلهم الشباب في كلّ الأحوال، قبل أن تتعزّز الصورة لاحقاً بالأساس السياسي والأيديولوجي الذي يؤكّد عدالة هذه القضية وقداسة موضعها.
مرحبًا بكم في جباليا.. دروس حرب الاستنزاف
يسعى الكيان الصهيوني إلى حروب سريعة وقاسية، بينما يسعى خصومها إلى حروب استنزاف بطيئة وغير منتظمة. والآن، ومع عودة عمليات المقاومة في جباليا وغزة، خسر خسر الكيان الميدان.
ما جرى ويجري في مخيّم جباليا، ليس مجرد اشتباك عسكري بين قوّة غازية، وعناصر من المقاومة في إطار «حرب عصابات». وعلى الرغم من أهمية ذلك بحد ذاته، إلا أن الدلالة الأكثر عمقًا للمنازلة المفاجئة الجارية في المخيّم الأكبر في قطاع غزة، أن الكيان غارق أكثر مما يقر به فعليًا، وهو بذلك يكرّر خطيئة الولايات المتحدة، عندما كانت منغمسة في «مستنقع فيتنام».
والوضع هنا لا يتعلّق بـ «ممر هو تشي منه» وفق التجربة الفيتنامية. ففي غزة، ما من معابر وممرات جبلية ولا غابات، ليتمكّن المقاومون، من سلوكها لنقل عناصرهم والسلاح مثلما جرى بالنسبة لمقاتلي «الفيتكونغ» في فيتنام عبر لاوس وكمبوديا. مصر معزولة، أو منكفئة تمامًا عن الساحة الغزاوية. ولا حدود لغزة مع العالم. ولهذا، فإن وقائع جباليا، تشير إلى «معجزة».
إن ادعاء الكيان سيطرته على شمال القطاع ووسطه قبل تركيزه على الهجوم باتجاه الجنوب، كان مجرد إشاعات زائفة، وإن المقاومة لا تزال تحتفظ بقوتها، في السيطرة والقيادة،والمقاومة مستعدة لمعركة استنزاف طويلة.
المخيّم الذي أحاله الكيان خرابًا كاملًا، ما بعد «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر الماضي، بعدما غزته في بداية الحرب ليكون بمثابة درس تهجيري يلوّح به الكيان مهدّد من شمال قطاع غزة، لأهل الوسط والجنوب، تحوّل فعليًا، وفق أكثر التوصيفات اعتدالًا، إلى »حرب استنزاف». جيش الاحتلال غارق في هذه الأثناء في «مستنقع» فعلي.
وهي «معجزة»، لأن قوات الغزو كانت أعلنت في بداية كانون الثاني انسحابها من جباليا بعد اكتمال «تطهيره»، والقضاء على قيادات المقاومة فيه، قبل أن تستأنف توغلها من شمال القطاع للالتقاء بقواتها الغازية في الوسط، ثم باتجاه الجنوب، وصولًا قبل أيام إلى الجانب الفلسطيني من معبر رفح.
الثقة التي أوحى بها جيش العدوبإعلان انسحابه من جباليا قبل نحو 5 شهور، يفترض أن تعني أن الأمور استتبت له بالكامل على الأرض. لكن يبدو أن ذلك لم يتحقّق. الخسائر المعلنة «إسرائيليًا»، تؤكّد أن منازلة حامية الوطيس تجري هناك.
شمال غزة ليست تحت قبضة جنود الاحتلال مثلما ادعى الكيان. في مستهل حربه على غزة، تحركت قوات الغزو من عدة محاور باتجاه القطاع، وتحديدًا من حي العطاطرة وبيت لاهيا وبيت حانون والشجاعية في الشمال والشمال الشرقي، ومن محاور الوسط تقريبًا في جحر الديك وحي الزيتون باتجاه الشيخ عجلين بالقرب من ساحل البحر، فأحكم بذلك سيطرته – أو هكذا قال وقتها – على شمال القطاع. لكنه في شهر كانون الثاني/ يناير أعلن إعادة انتشار لقواته، بالانسحاب من غالبية مناطق الشمال، والتمركز بشكل أساسي في محور حي الزيتون، ليتحرّك منه باتجاه المناطق «المطهرة»التي تواصلت فيها عمليات المقاومة.
وتقول مصادر في المقاومة الفلسطينية، إنه حتى حي الزيتون الذي شكّل معقلًا رئيسيًا لقوات الغزو للتصدي والتعامل مع نشاط من يمكن تسميتهم بأنهم «الفيتكونغ الفلسطيني»في نطاق شمال القطاع، لم يكن أرضًا مستقرّة لجنود العدو، حيث خرج المقاومون من بين الأنقاض والركام ومن تحت الأرض، لخوض حرب استنزاف حقيقية ضد آلاف الجنود المتمركزين فيه.
المفاجأة الجديدة الآن، أن جباليا تحوّلت إلى بؤرة مشتعلة. الهجمات المعلن عنها «إسرائيليًا» وفلسطينيًا، أوقعت خلال الأيام الماضية عشرات القتلى والجرحى، والعديد من المواجهات تجري من «المسافة صفر».
مصادر المقاومة تستعرض بعض ما يجري مشيرة الى استخدام كافة أنواع الأسلحة المتفجرة لتنفيذ الكمائن والهجمات: «عبوات الشواظ» و«التاندوم» لتدمير دبابات الميركافا والعربات المدرعة الأخرى، وقذائف «الياسين 105»، وعبوات تفخيخ المنازل بصواريخ وقذائف لم تنفجر خلّفها الاحتلال في غاراته منذ بداية الحرب، لتفجيرها بالجنود المتحصنين داخلها، وذلك بالإضافة إلى عمليات القنص التي لا تتوقف، وإطلاق قذائف الهاون المتنوعة، والخروج المباغت من الأنفاق والاشتباك وجهًا لوجه مع جنود العدو.
جباليا، هي الصفعة المدوية لنتنياهو. هي التقويض الميداني لفكرة أن «النصر الإسرائيلي» وشيك، وأن كل هراء الخطط المطروحة، «إسرائيليًا» وأميركيًا وعربيًا، سواء لاحتلال غزة، أو إدارتها، أو فرض سلطة عليها، ستبوء بالفشل المدوي. جباليا تعني أيضًا أن «أهداف الحرب» العدوانية لنتنياهو وعصابته، ليست بمتناول اليد حتى الآن.
الضفة الغربية تقترب من الإشتعال الكبير
صحيح أن الأنظار تتركز بشكل أساسي وحتمي على ما يحصل في غزة، من إبادة جماعية بحق المدنيين وبحق كل مظاهر للحياة هناك، الى أنه توازياً كانت الضفة الغربية تواجه عدواناً صهيونياً مستمراً تصاعد مع بدء عملية طوفان الأقصى، حيث حوّل الاحتلال مدن الضفة الغربية الى مناطق معزولة، وكثّف من حواجزه واقتحاماته لهذه المدن والمخيمات الفلسطينية.
في الواقع تعيش الضفة الغربية وما تزال منذ أكثر من 8 أشهر عدواناً مستمراً على المدنيين، مع وصول عدد شهداءها منذ ذلك التاريخ الى أكثر من 521 شهيداً وإصابة نحو 5 آلاف فلسطيني.
في وقت ترفع المقاومة الفلسطينية هناك من قلق الاحتلال وخوفه من تكرار 7 أكتوبر جديدة على تخوم المستوطنات، مع عمليات عسكرية تستهدف المستوطنات وأماكن تمركز العدو مما دفع بالمشهد أكثر للقول بأن الضفة تقترب من نقطة الإشتعال الكبرى سيما مع خروج تهديدات اسرائيلية بتحويل مناطق الضفة الى غزة ثانية.
حصاد المقاومة في الضفة الغربية خلال شهر 2024
استمرت أعمال المقاومة في الضفة الغربية والقدس المحتلة خلال شهر أيار المنصرم، حيث بلغ مجموع العمليات التي جرى رصدها (438) عملاً مقاوماً نوعيا وشعبيا، ما أدى إلى مقتل (3) وإصابة (7) جنود ومستوطن بجراح مختلفة.
وشملت أعمال المقاومة (32) عملية إطلاق نار و(43) اشتباكا مسلحا، نفذت (37، 16) عملية منها في جنين ونابلس على التوالي.
وأسفرت المواجهات والاشتباكات المسلحة في الضفة والقدس والداخل المحتل عن استشهاد (30) فلسطينيا بنيران الاحتلال ومستوطنيه.
وفي 5/5 نفذت قوات الاحتلال عملية عسكرية في بلدة دير الغصون شمال شرق طولكرم استهدفت خلية تابعة لكتائب القسام، استمرت الاشتباكات المسلحة قرابة (15) ساعة، أسفرت عن مقتل أحد جنود الاحتلال، واستشهاد (4) مقاومين.
وإثر الاشتباك كشفت كتائب القسام عن خليتها في طولكرم، والتي نفذت عدة عمليات نوعية ومركبة، أبرزها عملية بيت ليد المركبة في 2/11/2023، والتي قامت الخلية خلالها بتنفيذ عملية إطلاق نار تجاه مركبة للمستوطنين، أعقبها عملية استدراج وتفجير عبوة ناسفة بجنود الاحتلال أسفرت عن مقتل (2) وإصابة (4) من جنود الاحتلال والمستوطنين.
كما نفذت الخلية عملية إطلاق نار استهدفت حافلة للمستوطنين قرب النبي الياس شرق قلقيلية أسفرت عن إصابتين أحدها خطيرة.
وكشفت كتائب القسام عن ثلاثة من شهدائها، وهم علاء شريتح قائد الكتائب في طولكرم، والقائد عدنان سمارة، وتامر فقها، وهو أحد منفذي عمليتي بيت ليد والنبي إلياس، فيما كشفت سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي عن انتماء الشهيد الرابع وهو الشهيد آسال بدران، شقيق القائد المهندس فواز بدران، من كتائب القسام، والذي استشهد عام 2001 في انتفاضة الأقصى.
وفي 29/5 قام مقاومون بزرع عبوة ناسفة وتفجيرها في قوات الاحتلال المقتحمة لمدينة طوباس، أسفرت العملية عن إصابة (3) من الجنود بجراح متوسطة.
وفي ذات اليوم، قام مقاوم بتنفيذ عملية دهس عند حاجز عورتا في نابلس أسفرت عن مقتل جنديين في صفوف الاحتلال.
كما رصد -مركز معطى- (5) عمليات طعن أو محاولة طعن، و(1) عملية دهس أو محاولة دهس، فيما بلغ عدد عمليات زرع أو إلقاء العبوات الناسفة (51) عملية، و(8) عمليات إعطاب آليات عسكرية، و(1) عملية إحراق مواقع عسكرية.
وفي ذات الفترة، تواصلت الفعاليات الشعبية المناهضة للاحتلال، وبلغ عدد المظاهرات والمسيرات (23) مظاهرة، و(242) عمليات إلقاء حجارة ومواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال، و(6) عمليات إلقاء زجاجات حارقة، و(26) عملية تصد لاعتداءات المستوطنين في مختلف أنحاء الضفة.
وشهدت محافظات جنين ونابلس وطوباس أعلى عدد من حيث عمليات المقاومة النوعية، حيث بلغت (72، 15، 10) على التوالي.