أشدّ ما يثير حنق الساسة «الإسرائيليين» اليوم الكيان لم يعد محبوباً في العالم الغربي، كما لم يعد يمثّل ذلك النموذج اللامع في الأمن والصعود الاقتصادي، مثلما كان الحال طوال العقود السابقة، فالكيان الذي تمّ تصويره للعالم باعتباره واحة آمنة «لضحايا النازية» التي هي امتداد لفترات طويلة من التطرف القومي الأوروبي، باتت الآن في نظر الشارع الأوروبي عبارة عن كيان وحشي متعطّش لدماء الفلسطينيين، وينتهك القوانين الدولية كافة، والإشكال أنه رغم كل هذا الجبروت العسكري، فإن جيش العدو غير قادر على توفير الأمان لـ«المواطنين»، في ظل استمرار فصائل المقاومة في توجيه صواريخها إلى كل بقعة داخل “الكيان، الذي بات يعاني بدوره من تدهور عامّ غير مسبوق.
ضمن هذا السياق، يأتي قرار المحكمة الجنائية الدولية، ليصبّ مزيداً من الزيت على النار، خاصة أن عدداً غير قليل من الدول الغربية أعلنت تجاوبها مع القرار، وامتثالها لتنفيذه، مثل هولندا وبلجيكا وأيرلندا وكندا وإيطاليا. بطبيعة الحال كانت العواصم الغربية، المنطوية تحت لواء الجنائية الدولية، خجولة في إدانة «تل أبيب» أو إعلان دعمها للحُكم بتوقيف نتنياهو، لكن بكل الأحوال، أن تكون مسألة (القبض على رئيس الحكومة الإسرائيلية) بحد ذاتها محل نقاش، فهذا يمثّل مكسباً عظيماً للقضية الفلسطينية، ويجلب لها أنصاراً من دوائر دولية كان محظوراً على العرب الولوج إليها فيما مضى.
حتى الآن لم يتمّ الكشف عن تفاصيل الاتهامات التي أُدين بموجبها المسؤولين «الإسرائيليين»، وهذا بدوره يدفع الإعلام العبري للتساؤل عن إمكانية اتساع دائرة الاتهامات، لتشمل مسؤولين «إسرائيليين» آخرين وضباطاً في «الجيش» برتب مختلفة، بالشكل الذي من الوارد أن يجعل المسؤولين الحكوميين والعسكريين «الإسرائيليين» عُرضة للاعتقال ببساطة عند السفر إلى الخارج، بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية.
البيت الأبيض يدرك أن سلامة نتنياهو ليست محلّ تهديد بعد قرار المحكمة، كما أن «الجنائية الدولية» لا تملك ذراعاً لثني قوات الاحتلال عن ارتكاب المزيد من الجرائم، لكن في الوقت ذاته تأثير القرار على صورة الكيان على المستوى العالمي سيكون سلبياً للغاية، لذا سارع المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض إلى إعلان رفضه القاطع لقرار المحكمة الجنائية الدولية، معتبراً أن المحكمة لا تتمتع بولاية قضائية في هذا النوع من القضايا.
يمكن القول أن محكمة الجنايات الدولية في نفق مظلم ومصيرها، ومصير النظام القانوني الدولي برمّته بات على المحكّ، بسبب إصدار مذكرات التوقيف بحق رئيس حكومة العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يواف غالنت، فالمساس بمن أصدرت بحقهم مذكّرات التوقيف أو من يقف خلفهم ويدعمهم، كان دائماً من المحرّمات.
منذ إنشائها عام 2002، بالنسبة لمحكمة الجنايات، وعام 1945 بالنسبة لمحكمة العدل، ركّزت المحكمتان على المهزومين في الحروب، كالرئيس الصربي السابق صلوبودان ميلوزوفيتش، أو زعماء دول العالم الثالث الأفارقة بالتحديد، كالرئيس السوداني السابق عمر البشير.
إصدار هذه المذكّرات يعني فتح الباب أمام تحقيقات متشعّبة وواسعة بالجرائم التي ارتكبت ضد الفلسطينيين، ومن الطبيعي أن تمتد الى ما هو أبعد من بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، أو أبعد من الكيان وصولاً إلى أطراف دوليّين ساهموا أو شجّعوا الاحتلال على ارتكاب جرائمه، ومن بين هؤلاء نجد في طبيعة الحال الولايات المتحدة ودول أوروبية بالإضافة إلى مؤسسات أوروبية كالاتحاد الأوروبي، وإذا كانت الولايات المتحدة خارج إطار المحاسبة أو المساءلة كونها ليست عضواً في محكمة الجنايات الدولية فإن وضع الدول الأوروبية مختلف تماماً.
انطلاقاً من هذا الواقع غير المعهود، اختار الأوروبيون الوقوف في نصف الطريق، وبخلاف هولندا والسويد وسويسرا وإيطاليا، التي أعلنت أنها ستنفّذ قرار المحكمة وتعتقل المجرمين «الإسرائيليين» في حال وجدوا على أراضيها، قدّمت الدول الأوروبية الكبرى، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، نموذجاً مختلفاً من المواقف، صحيح أنها رحّبت ودعمت ما صدر عن لاهاي، لكنّ اقتصار الموقف على الترحيب والدعم الكلامي لا يتطابق مع روحية اتفاقية روما التي وقّعت عليها هذه الدول، والتي تنصّ على إلزامية الدول الأعضاء في محكمة الجنايات توقيف المتهمين على أراضيها.
ما هي تهمة الأوروبيين؟
هي حالة من الانفصام غير المعهود تمرّ بها هذه الدول، هي تدعم قرارات المؤسسة القانونية الدولية، وفي الوقت عينه يمكن أن تتقاسم الاتهام مع قادة الكيان، وفي هذا الإطار، نحن أمام مجموعة من الحقائق تثبت دور الأوروبيين في تشجيع الكيان على ارتكاب جرائم الحرب بحقّ الفلسطينيين
كيف يمكن تعظيم الاستفادة الفلسطينية من قرار الجنائية الدولية :
أولاً، تعزيز الموقف القانوني للشعب الفلسطيني:
يمكن للقرار أن يدعم الجهود الفلسطينية في ملاحقة المسؤولين «الإسرائيليين» عن الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطينيين، مثل الاستيطان غير القانوني، والحصار المفروض على غزة، والاعتداءات المتواصلة.
وفي حال أصبح القرار نافذاً، سيشكّل ذلك سابقة قانونية تتيح للفلسطينيين تقديم المزيد من الشكاوى ضد القيادات «الإسرائيلية» حتى لو لم تكن قد غادرت موقعها في السلطة.
ثانياً، تأثير دبلوماسي على السياسة الخارجية لحكومة الاحتلال:
من شأن القرار أن يفاقم من عزلة الكيان دولياً، حيث سيواجه ضغوطاً من الدول الـ 124 التي تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية، كما أنه سيؤثّر كذلك على تحرّكات المسؤولين «الإسرائيليين» على الصعيد الدولي، حيث سيضطرون إلى تجنّب زيارة دول تعترف باختصاص المحكمة خوفاً من تنفيذ قرار الاعتقال.
ومن المعلوم أنه خلال الشهور الماضية، قامت أكثر من 20 جامعة في أوروبا وكندا بقطع علاقاتها مع المؤسسات «الإسرائيلية»، كما قرّرت العديد من المعارض التجارية استبعاد الشركات «الإسرائيلية»، وفي الآونة الأخيرة تم رفض منح دخول وزيرة العدل السابقة، أيليت شاكيد، تأشيرة دخول إلى «أستراليا».
ثالثا، العمل على توسيع دائرة الاتهام:
قرار المحكمة يعني أنها اقتنعت بأن ما جرى في قطاع غزة هو بالفعل جرائم حرب، تشمل التجويع والتعطيش وحرمان الناس من العلاج، والقتل الجماعي. في هذه القضايا يوجد متهمان كبيران هما نتنياهو وغالانت، ولكن يوجد وسطاء لتنفيذ القرارات. والمنفّذون هم ألوف الجنود والضباط الذين نشروا صوراً في وسائل التواصل الاجتماعي يتباهون فيها بممارساتهم الوحشية ضد الفلسطينيين.
وكل واحد من هؤلاء يمكن اعتقاله بقرار من أيّ محكمة في أيّ دولة يصل إليها، في حال قُدّمت شكوى ضده، ويمكن للهيئات العربية التعاون مع الناشطين والمتطوّعين من مختلف دول العالم لتقديم شكاوى ضد هؤلاء، بحيث يصبح ضباط وجنود الاحتلال مطاردين خارج الكيان الصهيوني.
رابعاً، الضغط على الدول المتعاونة مع الكيان:
يمكن للعرب الاستفادة من القرار عبر زيادة الضغط على حلفاء «تل أبيب»، خاصة في القارة الأوروبية، لتغيير سياساتهم أو تقليل دعمهم لها، استناداً إلى مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي.
خامساً، تعزيز موقف المقاومة:
فاستناداً إلى تلك الإدانة الدولية لممارسات حكومة الاحتلال، يمكن لوسائل الإعلام العربية التكثيف من حجم المواد المنشورة دفاعاً عن المقاومة وشرعيّة وجودها. فثمة احتلال يرتكب المجازر بحقّ أصحاب الأرض من الفلسطينيين، وبالتالي فإن صور المقاومة كافة، بما يشمل النمط المسلح، هي مقاومة مشروعة ولا بدّ أن تحظى بالقبول الدولي.