(الإيكونوميست)
يشهد العالم عودة مقلقة للصراعات المسلحة والحروب الأهلية في مناطق مختلفة، إذ تتضافر عوامل مختلفة لتأجيج هذه الصراعات وجعلها أكثر دموية، ومنها عوامل مثل التغيرات المناخية والتطرف الديني إلى جانب تدخل بعض القوى الخارجية، وفي ضوء هذا فقد نشر موقع “الإيكونوميست” تقريراً بعنوان “نزاعات منسية: الحروب الأكثر دمويةً في العالم العام الماضي لم تكن في أوكرانيا”، في 17 أبريل 2023، ويمكن استعراض أبرز ما جاء فيه على النحو التالي:
صراعات دامية
تناول التقرير أبرز الصراعات المسلحة التي شهدها العالم مؤخراً بخلاف الحرب الأوكرانية؛ وذلك على النحو التالي:
1– ثلاث موجات متتالية من الحروب الأهلية منذ عام 1945: مع تركيز الاهتمام على التنافس بين القوى العظمى بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، تزداد الصراعات في بقية العالم سوءاً؛ فلقد تضاعف عدد الذين أُجبروا على الفرار من منازلهم في العقد الماضي، ليصل إلى ما يقرب من 100 مليون. وحتى مع تراجع معدل الفقر العالمي، تضاعف عدد اليائسين الذين يحتاجون إلى مساعدات طارئة منذ عام 2020، إلى 340 مليوناً، نحو 80% من هذا العدد ناتج عن الصراعات حسب تقديرات لجنة الإنقاذ الدولية (IRc)، وهي منظمة غير حكومية.
فمنذ عام 1945، جاءت الصراعات في ثلاث موجات متداخلة: النضال من أجل الاستقلال، ثم صراع الجماعات المتنافسة من أجل السيطرة على هذه الدول المستقلة حديثاً، كما زادت الحرب الباردة من المخاطر؛ إذ دعم الغرب حركات التمرد ضد الحكومات التي تدَّعي أنها ماركسية، بينما دعم الاتحاد السوفييتي العصابات والأنظمة الثورية المناهضة للرأسمالية في كل قارة. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، انخفض عدد الحروب بحدة، ولكن بعد عام 2011، جاءت الموجة الثالثة؛ فلقد ازداد عدد الحروب؛ حيث أدى الربيع العربي إلى اندلاع الصراع في الشرق الأوسط، وانتشر شكل جديد من الجهادية في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وأعاد فلاديمير بوتين إحياء الإمبريالية الروسية القديمة.
2– اندلاع صراع مسلح في السودان بين الجيش و”الدعم السريع”: لا يمكن أن يندلع الصراع إلا إذا اختار شخص ما بدء القتال؛ ولدى السودان شخصان متحاربان واضحان؛ إذ يقاتل قائد الجيش، زعيم قوات أخرى، للسيطرة على ثالث أكبر دولة في إفريقيا؛ حيث يرأس الجنرال عبد الفتاح البرهان – الحاكم الفعلي للسودان – المجلس العسكري في حين يقود محمد حمدان دقلو المعروف باسم “حميدتي”، مجموعات شبه عسكرية تسمى قوات الدعم السريع. وبحسب التقرير، فإن لدى كلا الجانبين في السودان، قدر كبير من الطموح، والجيش لديه بالفعل إمبراطورية تجارية واسعة، وبحسب ما ورد في التقرير، جمع حميدتي ثروة كبيرة من مناجم الذهب وبيع الخدمات العسكرية لدول أجنبية. ولا يبدو أن أياً من الرجلين، يرغب في تقاسم السلطة، بل كل واحد يتعامل مع الآخر كمجرم. ومع ذلك فإن مصائب السودان ليست مجرد خطأ هذين الرجلين، بل عانت البلاد من حروب أهلية في معظم الأوقات منذ الاستقلال في عام 1956.
3– اعتبار الصراع في إثيوبيا الأكثر دموية العام الماضي: يشير كومفورت إيرو رئيس مجموعة الأزمات – وهي مؤسسة فكرية – إلى أن الحرب الأكثر دمويةً في العالم العام الماضي، لم تكن في أوكرانيا، بل في إثيوبيا. وقد قدر أولوسيجون أوباسانجو الرئيس السابق لنيجيريا، الذي ساعد في التوسط في اتفاق سلام في نوفمبر بين الحكومة ومنطقة تيجراي المتمردة، عدد القتلى بـ600 ألف بين عامي 2020 و2022، في حين لا يوجد تقدير لأوكرانيا بهذا الارتفاع. حتى لو استمر اتفاق السلام – وهو أمر غير مؤكد – فلن يساعد ذلك؛ لأن المذبحة التي شهدتها إثيوبيا كانت جزءاً من صراع منفصل تماماً، لا يزال مشتعلاً. وإذا كان هذا يبدو معقداً، فهو في الواقع أكثر من ذلك بكثير؛ حيث يوجد في إثيوبيا أكثر من 90 مجموعة عرقية، يميل العديد من قادتها إلى إثارة الكراهية للسيطرة على واحدة من 11 منطقة عرقية في البلاد، كما أرسلت الدكتاتورية المجاورة إريتريا، جيوشاً للقتال ضد حكومة إثيوبية سابقة، وجيشاً مع الحكومة الحالية. وهكذا تخلق الحرب حلقة مفرغة.
4– تنامي الصراعات في منطقة الساحل الإفريقي: بالنظر إلى الساحل – وهي منطقة قاحلة شاسعة تحت الصحراء الكبرى – فقد عانت خمس دول (بوركينا فاسو وتشاد ومالي والنيجر وشمال نيجيريا) من موجات الجفاف في عام 2022، وأشد أزمة غذائية منذ 20 عاماً، كما تضرر ما يقرب من 6 ملايين من جراء الفيضانات، ويعاني نحو 24 مليون شخص في تلك الدول من انعدام الأمن الغذائي. في منطقة فرعية واحدة فقط من مالي، كشفت لجنة الإنقاذ الدولية IRC، ما لا يقل عن 70 صراعاً في أواخر عام 2021؛ كان نصفها حول الأرض؛ وثلثها حول الماء. في هذه البيئة اليائسة، صعدت الجماعات الجهادية، لتَعِد بالعدالة في البلدان التي بالكاد تعمل فيها المحاكم الرسمية. ولكن بمجرد أن تكتسب موطئ قدم، تسرع في هدم سلطة الدولة؛ فعلى سبيل المثال بين عامي 2020 و2022 في البلدان الخمسة المذكورة أعلاه، تضاعف عدد المدارس التي أُغلقت بسبب العنف ثلاث مرات، كما أن جهود الحكومة لقهر الجهاديين، غالباً ما تزيد الأمور سوءاً.
5– استمرار الحرب الأهلية الدامية في ميانمار: يوضح بلد واحد في آسيا جميع العلل التي تجعل الحروب الأهلية مستمرة؛ حيث تعتبر ميانمار موطناً لبعض أقدم حركات التمرد في العالم، وبعض أحدثها. ويعد الصراع في ميانمار معقداً بشكل مذهل؛ فهناك قوة الدفاع الشعبي (PdF) التي تم تشكيلها بعد استيلاء المجلس العسكري على السلطة في عام 2021، وهي الجناح العسكري لحكومة الوحدة الوطنية، وتعتبر دولة موازية من النشطاء والسياسيين والزعماء العرقيين تهدف إلى استعادة الديمقراطية.
كذلك ربما تسيطر 200 جماعة مسلحة على أجزاء من الأرض، أو تقاتل للإطاحة بالحكومة، بعضها جيوش تسعى إلى الحكم الذاتي لمجموعات عرقية كبيرة، وبعضها ميليشيات محلية تحاول الدفاع عن قرية واحدة. تغير المناخ له دور أيضاً هنا؛ فلقد اكتسب التمرد قوة في المنطقة الوسطى التي جعلها الجفاف أكثر فقراً، كما تمنح الجريمة العديد من المقاتلين سبباً لمواصلة القتال ناهيك عن تورط الجيش بشدة في عمليات تهريب الهيروين واليشم، وكذلك بعض الميليشيات العرقية. وهكذا لم تشهد البلاد سنة خالية من الصراع منذ الاستقلال في عام 1948.
أسباب مختلفة
أشار التقرير إلى جملة من الأسباب التي تدفع إلى إطالة أمد الصراعات وتعقيدها، لا سيما دور العوامل الخارجية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1– تعقُّد وتداخل أسباب الحروب الأهلية: من الصعب فهم معظم النزاعات المسلحة الحديثة؛ فعادةً ما تكون حروباً أهلية، على الرغم من أن العديد منها ينطوي على تدخل أجنبي، كما أنها تحدث إلى حد كبير في الدول الفقيرة، وخاصةً الدول الساخنة مثل السودان، وتُسبب ملايين الوفيات. كذلك فإن القتال يجعل الأماكن الفقيرة أكثر فقراً وبسرعة؛ حيث تقلل الحرب الأهلية التي تستمر خمس سنوات، دخل الفرد بمقدار الخُمس، حسب تقديرات كريستوفر بلاتمان من جامعة شيكاغو، في كتابه “لماذا نقاتل؟”؛ لذا فمن المثير للقلق أن تستمر الحروب لفترة أطول.
2– تأجيج التطرف الديني وتآكل المعايير الدولة للصراعات: هناك عدة أسباب معقولة لاستمرار النزاعات لفترات أطول؛ منها على سبيل المثال أن المعايير العالمية أصبحت آخذة في التآكل؛ فعندما انتهكت روسيا العضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ميثاق الأمم المتحدة من خلال غزو أوكرانيا، أظهر ذلك مدى ضعف القواعد الدولية. وعندما وصفت الصين – وهي عضو دائم آخر في مجلس الأمن – بوتين بأنه صديق عزيز على الرغم من اتهامه بارتكاب جرائم حرب، فقد شجعت بذلك أصغر المتمردين. في السودان، على سبيل المثال، لم يُحاسب أي شخص على المذابح الجماعية خلال حروب البلاد المختلفة. ومع ذلك، فإن الإفلات من العقاب ليس القصة الكاملة؛ حيث تتسبب عوامل أخرى في استمرار النزاعات لفترة أطول؛ إذ يؤجج تغير المناخ المعارك على المياه والأرض، فضلاً عن أن التطرف الديني آخذ في الانتشار.
3– مُساهمة التدخُّلات الخارجية في إطالة الصراعات: بين عامي 2001 و2010، عانى نحو خمس دول كل عام، من أكثر من حرب أو تمرد متزامن. الآن وصل العدد إلى 15 دولة. السودان وحدها بها صراعات في الشرق والغرب والجنوب. الحروب المعقدة بوجه عام، يصعب إنهاؤها؛ فلا يكفي إيجاد حل وسط يُرضِي طرفين، بل قد يكون من الضروري إرضاء العشرات من الجماعات المسلحة. أصبحت الحروب الأهلية دولية أيضاً؛ ففي عام 1991، شارك 4% فقط من الخارج بقوات أجنبية كبيرة. بحلول عام 2021، ارتفعت النسبة 12 ضعفاً لتصل إلى 48%، حسب تقديرات برنامج بيانات الصراع في أوبسالا.
4– تراجُع دور الولايات المتحدة كشرطي عالمي: في العقد الماضي، كانت هذه الصراعات مدفوعة جزئياً بتراجع واشنطن عن دورها كشرطي عالمي، وظهور قوى متوسطة الحجم تملأ الفراغ؛ حيث تتنازع روسيا وتركيا على ليبيا وسوريا، بينما خاضت المملكة العربية السعودية وإيران حرباً بالوكالة في اليمن. وفي السودان، تدعم مصر الجنرال البرهان، أما حميدتي فصديق لروسيا. من ناحية أخرى، يمكن أن يكون التدخل الأجنبي حميداً، كما هو الحال في عمليات حفظ السلام بوجه عام، لكن تدخلات القوى الخارجية ذات الأجندات الخاصة، تميل إلى جعل الحروب الأهلية تدوم لفترة أطول وتكلف المزيد من الأرواح.
5– اتساع نطاق الصراعات بسبب تغيُّر المناخ: يؤدي تغير المناخ إلى تفاقم الفوضى؛ حيث لا يتسبب ذلك في الصراع بشكل مباشر، ولكن عندما تجف المراعي ينقل الرعاة ماشيتهم الجائعة إلى أماكن أبعد، وغالباً ما يتعدون بذلك على الأراضي التي تطالب بها الجماعات العرقية المتنافسة. ولقد وجدت مراجعة لـ55 دراسة أجراها باحثون من جامعة ستانفورد، أن زيادة الانحراف المعياري الواحد في درجة الحرارة المحلية، تزيد فرصة الصراع بين المجموعات بنسبة 11%، مقارنةً بما كان يمكن أن يكون في درجة حرارة طبيعية أكثر. على الصعيد العالمي، نزح نحو 24 مليون شخص بسبب الطقس القاسي في عام 2021، وتتوقع الأمم المتحدة أن يرتفع هذا الرقم. في السودان، نزح نحو 3 ملايين شخص بسبب النزاعات والكوارث الطبيعية، حتى قبل بدء جولة القتال الحالية.
6– ارتباط وثيق بين الصراع و”الجريمة المنظمة”: بالنسبة إلى الجماعات المتمردة التي لا تمتلك باعثاً دينياً، يوفر المال دافعاً كافياً لحمل السلاح؛ فلقد وجدت دراسة أجراها جيمس فيرون من جامعة ستانفورد، أن الحروب الأهلية التي تكسب فيها قوةٌ متمردةٌ كبيرةٌ المالَ من المخدرات أو المعادن غير المشروعة، تميل إلى أن تستمر لفترة أطول. وغالباً ما تكون القوات الحكومية جشعة أيضاً. ولعل من الأمثلة المتطرفة على الروابط بين الجريمة والنزاع، هاييتي؛ ففي عام 2021، اغتيل رئيسها جوفينيل مويس، ولا أحد يعرف من أمر بالضرب، لكن الكثير يشتبه في وجود صلة بتجارة المخدرات.
منذ ذلك الحين، دخلت البلاد في حالة من الفوضى؛ فالعصابات التي كانت تسيطر في السابق على الأحياء الفقيرة فقط، تسيطر الآن على جزء كبير من العاصمة. ويتوسل رئيس وزراء هاييتي أرييل هنري من أجل التدخل العسكري الأجنبي لمساعدة الشرطة على استعادة النظام. ومع ذلك، تخشى جماعات المعارضة الهاييتية من أن مثل هذا التدخل، لن يؤدي إلا إلى دعم هنري الذي استولى على السلطة بعد وفاة مويس، ويُنظر إليه على نطاق واسع على أنه غير شرعي.
7– تعثُّر جهود السلام وجمود مجلس الأمن الدولي: لقد تعثرت الجهود العالمية لتعزيز السلام بسبب حقيقة أن اثنين من الأعضاء المتمتعين بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، هما منتهكان أساسيان لحقوق الإنسان؛ حيث استخدمت روسيا حق النقض ضد مجلس الأمن 23 مرة في العقد الماضي، وألغت قرارات للسماح بمزيد من المساعدات إلى سوريا، والتحقيق في جرائم الحرب في البلقان، وبالطبع، قرارات لدعم سيادة أوكرانيا. كذلك استخدمت الصين الفيتو تسع مرات. في المقابل، استخدمته الولايات المتحدة ثلاث مرات، معظمها لحماية إسرائيل. أما فرنسا وبريطانيا فلم تستخدماه على الإطلاق. وفي عامي 2001 و2010، عندما كانت طموحات بوتين الإمبريالية محدودة، ولم يكن شي جين بينج في السلطة بعد، أصدرت روسيا حق النقض أربع مرات فقط، والصين مرتين.
في الختام، أشار التقرير إلى أن هناك الكثير من الأفكار حول كيفية إنهاء الحروب؛ منها البدء في محادثات بين الأطراف المتحاربة. بالإضافة إلى ذلك، من الضروري إشراك المزيد من النساء وجماعات المجتمع المدني في عملية السلام، وتقبُّل فكرة أن أي اتفاق سلام من المحتمل أن يكون سيئاً. وبحسب ديفيد ميليباند رئيس IRC، فإن “استبعاد الذين لا تحبهم من السياسة لا ينجح”؛ فعلى سبيل المثال، كان تطهير الجيش العراقي من جميع مؤيدي نظام صدام حسين، خطأً كبيراً، وكذلك محاولة بناء نظام في أفغانستان بدون طالبان، لكن الإجراءات الأكثر أهميةً، كبناء دول فاعلة والحد من تغير المناخ، قد يستغرق تنفيذها عقوداً.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز الإعلام والدراسات الفلسطينية، وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً