وليد حباس
(مجلة فتح – العدد 762)
على مدار أعوام طويلة، قامت «إسرائيل» باستخدام أدوات مختلفة، مباشرة وغير مباشرة، إلى أن وصلت إلى حالة «وضع قائم» (status-quo) تتلخص بالآتي: 1) انسداد الأفق السياسي الذي يقوم على مفاوضات مباشرة تتعلق بالحلول النهائية؛ 2) نوع من الاستقرار الذي يتيح الاستمرار بالتوسع الاستيطاني و«الضم الزاحف» للمناطق «ج» بدون أن يقود الأمر إلى انفجار سياسي فلسطيني أو دبلوماسي دولي.
«لإسرائيل» مصلحة في الحفاظ على هذا «الوضع القائم» لأسباب عدة، أهمها: 1) استمرار الوضع القائم يتيح المضي قدماً في المشروع الاستيطاني بدون وجود عراقيل تستدعي فرض سيناريوهات غير مرغوبة بالنسبة «لإسرائيل». 2) استمرار الوضع القائم يعفي الساحة السياسية الحزبية في «إسرائيل» من أي نقاش حقيقي حول المسألة الفلسطينية. من هنا، تتوافق كافة الأحزاب «الإسرائيلية» الحالية (من اليمين وحتى اليسار ومروراً بأحزاب الوسط والمتدينين) على أن استمرار الوضع الراهن يتيح لجميع الأطراف أن تتنصل من استحقاقاتها السياسية التي لا ترغب بها أصلا، والتي تتعلق بحل الدولتين، والانسحاب من الأرض المحتلة، ومسألة الضم القانوني للضفة الغربية، ومسألة الاستيطان، وغيرها.
في هذا السياق، الذي تم وصفه بأنه «الوضع القائم»، فإن «إسرائيل» تحدد علاقتها بالساحة الفلسطينية الداخلية على النحو الآتي:
سياسيا: «إسرائيل» تعترف فقط بالأطراف الفلسطينية التي تتبنى حصريا فكرة التسوية التفاوضية وتحارب الأطراف الأخرى أو تحاول ضبطها، أو ردعها، أو إضعافها. تجمع على هذا الموقف كافة الحكومات «الإسرائيلية» اليمينية، والوسطية واليسارية.
إداريا: «إسرائيل» ترى ضرورة استمرار عمل مؤسسات «السلطة الفلسطينية» وأجهزتها الأمنية على أساس بنود اتفاق أوسلو بالإضافة إلى النظم الأخرى المتفق عليها والمعمول بها حاليا. بالنسبة «لإسرائيل»، هذه حاجة إدارية تتعلق بتنظيم وإدارة الحياة الصحية، التعليمية، الاقتصادية والاجتماعية لحوالى 5 ملايين فلسطيني يتوزعون بين الضفة الغربية وقطاع غزة، بحيث أن مسؤوليات «إسرائيل» تجاه الفلسطينيين تنبع من قوة اتفاقيات أوسلو المتفق عليها بين الطرفين.
اقتصاديا: «إسرائيل» تفضل حالة الهدوء والاستقرار في علاقتها مع الضفة الغربية وقطاع غزة، على حالة التوتر أو الصدام. ثمة العديد من القنوات الأمنية، والعسكرية والدبلوماسية التي تربط بين «السلطة الفلسطينية» و«إسرائيل» بهدف الحفاظ على الهدوء والاستقرار. ومع ذلك، لا تزال «إسرائيل» ترى أن أهم وسيلة لتحقيق الهدوء تكمن في تحسين الحالة الاقتصادية للفلسطينيين.
أمنيا: تنظر «إسرائيل» إلى حالة الانقسام السياسي بين فتح/ أو الضفة وحماس/ أو غزة على أنها ضرورة أمنية فتحاول أن تدفع إلى ديمومة الانقسام وتسعى بشكل مباشر أو غير مباشر لتقويض جهود المصالحة.
تنظر «إسرائيل» إلى التفاعلات داخل الساحة الفلسطينية في «فترة ما بعد أبو مازن» على أنها قد تسمح باستمرار الوضع القائم (لا مفاوضات و«ضم زاحف»)، أو قد تدفع إلى تهديد الوضع القائم.
السيناريوهات التي تتحضر لها «إسرائيل» في «فترة ما بعد أبو مازن»
حصول إجماع فلسطيني على خليفة أبو مازن الذي يقف على رأس «السلطة الفلسطينية»، منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح. «إسرائيل» تدرك أن نظاما سياسيا فلسطينيا مستقرا يتطلب وجود توافق على خليفة أبو مازن من قبل الأجهزة الأمنية، الفصائل الفلسطينية وأهمها حركتا فتح وحماس، مؤسسات السلطة والمجتمع المدني، الجماهير الفلسطينية، والعديد من دول المنطقة، أهمها الأردن، ومصر، والسعودية، وطبعا المجتمع الدولي، وخصوصا الولايات المتحدة.
حصول انتخابات تشريعية ورئاسية. والانتخابات قد تكون في الضفة الغربية وغزة في آن واحد، أو في جانب واحد فقط. وقد تسير الانتخابات بشكل ديمقراطي بحيث تحترم جميع الأطراف مخرجاتها، أو قد تكون منصة أخرى لتعميق الانقسامات السياسية والولائية والفصائلية.
في حال تعذر إجراء انتخابات في «فترة ما بعد أبو مازن»، قد تنشأ حالة من التنافس الفلسطيني الداخلي بين العديد من مراكز القوى. هذا التنافس قد ينتهي إلى واحد من الاحتمالات الآتية:
قد تستمر مؤسسات «السلطة الفلسطينية» بالعمل من خلال قيادة جماعية بحيث يتم توزيع مراكز القوى المتعلقة بالاقتصاد، الأجهزة الأمنية، البنية التنظيمية لحركة فتح («التنظيم»)، العلاقة مع «إسرائيل»، شؤون المفاوضات والعلاقات الدولية، التنسيق المدني والأمني، على أكثر من مسؤول فلسطيني والذين يعملون سوية بشكل يجمع بين الانسجام والتنافس، لكنه سياق مستقر وطويل الأمد.
لكن قد يؤدي التنافس بين مراكز القوى الفلسطينية، أيضا، إلى الدخول في سياق طويل من الفوضى الذي يتعذر ضبطه، أو التأثير عليه، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار مؤسسات السلطة الفلسطينية.
قد ينشأ سياق طويل من الفوضى بسبب التنافس بين مراكز القوى الفلسطينية، لكن وبدل أن تنهار السلطة فإنها قد تنقسم جغرافياً إلى عدة كيانات محلية، تشبه إدارات مستقلة للكانتونات الفلسطينية.
قد ينشأ سيناريو شبيه «بالانقلاب العسكري» بحيث تسيطر الأجهزة الأمنية على كل (أو بعض) المؤسسات السياسية داخل الساحة الفلسطينية، وقد تكون هذه السيطرة طويلة الأمد أو مرحلية.
في مقابل كل هذه السيناريوهات، قد يظهر سياق مغاير تصل حركة حماس في نهايته إلى الحكم في الضفة الغربية. يمكن لحماس أن تسيطر على مؤسسات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، إما عن طريق الانتخابات، أو عن طريق القوة العسكرية، أو من خلال صعود تدريجي يترافق مع انهيار تدريجي لمؤسسات حركة فتح بسبب تنافسات داخلية.
تحاول التقارير الإسرائيلية أن تقدم قراءة مستقبلية لـ «فترة ما بعد أبو مازن» من خلال وضع مؤشرات لأرجحية كل سيناريو وحظوظ تحققه. كما أن هناك تفضيلاً إسرائيلياً لسيناريوهات معينة مقابل عدم تفضيل سيناريوهات أخرى، على النحو الآتي:
السيناريو الأكثر تفضيلا هو استمرار وجود «سلطة فلسطينية» فاعلة وتقيم علاقات تنسيق مدني وأمني مع «إسرائيل»
السيناريو الأقل تفضيلا هو وجود «سلطة فلسطينية فاعلة على الصعيد الفلسطيني الداخلي، وقادرة على توفير الخدمات العامة للفلسطينيين، ولكنها تتحول إلى معادية لإسرائيل.
السيناريو الذي تتخوف منه «إسرائيل» هو انهيار السلطة الفلسطينية.
التوصيات الإسرائيلية للتعامل مع «ترة ما بعد أبو مازن»
أولا، على المستويات التنفيذية في «إسرائيل» أن تدعم حالة من الاستقرار في الساحة الفلسطينية الداخلية من خلال عدم التدخل بشكل مباشر في خيارات الفلسطينيين في «فترة ما بعد أبو مازن»
ثانيا، لا يجب على «إسرائيل» أن تقوم بخطوات أحادية الجانب تتعلق بمصير الأراضي المحتلة والتي قد تعقد الوصول إلى إجماع فلسطيني على قيادة سياسية واحدة للمرحلة القادمة.
ثالثا، في كل الأحوال، على «إسرائيل» أن تحافظ على «حرية عملها العسكري» داخل مناطق الحكم الذاتي.
رابعا، تذليل أكبر قدر من العقبات الاقتصادية، خصوصا المتعلقة بالحركة والتجارة، والمقاصة، قد يكون له دور إيجابي في الوصول إلى استقرار فلسطيني سياسي.
خامسا، على «إسرائيل» أن تدعم مؤسسات السلطة الفلسطينية وتكف عن اتخاذ الإجراءات التي تساهم في إضعافها أو إحراجها.
سادسا، على «إسرائيل» أن تتعلم كيف تتعايش مع سلطة فلسطينية تستخدم خطابا سياسيا «هجوميا ومعاديا لإسرائيل»، على الأقل في السنوات الأولى في «فترة ما بعد أبو مازن».
سابعا، على «إسرائيل» أن تستنفد كل القنوات والعلاقات التي تربطها مع الدول العربية المجاورة، والمجتمع الدولي، والاتحاد الأوروبي، والمؤسسات الدولية (سواء الاقتصادية، أو الإغاثية، أو السياسية)، والتي قد تتقاطع مصالحها مع «إسرائيل» في ما يتعلق بضرورة الحفاظ على حالة استقرار في «فترة ما بعد أبو مازن».
في هذا السياق، تري «إسرائيل» أن لديها سلتان من الأدوات (سلة أدوات «عسكرية» وسلة أدوات «قوة ناعمة»)، والتي من خلالها يمكن أن تلعب دورا معينا في التأثير على مرحلة ما بعد أبو مازن.