د. منى سليمان( عن انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية )
أعلنت موسكو عن إحباط محاولة لاغتيال الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” من خلال استهداف الكرملين بطائرتَين مسيرتَين فجر يوم 3 مايو 2023، واتَّهمت أوكرانيا بتنفيذ ذلك الهجوم، وألمحت إلى تورط أمريكي فيه أيضاً، وهو ما نفته كييف وواشنطن، وشكَّكتا في الرواية الروسية، واتهمتا موسكو بتدبير الحادث ليصبح ذريعة بعد ذلك لاستهداف مؤسسات حيوية بأوكرانيا. وقد أعلنت موسكو تكثيف الإجراءات الأمنية في العاصمة تحسباً لأي هجمات جديدة، واستعداداً لاحتفالات عيد النصر في 9 مايو الحالي. وتترقَّب كييف رد موسكو على استهداف القيادة السياسية الروسية الذي سيُمثِّل “نقطة تحول” في الحرب المستمرة منذ عام ونيِّف.
أبعاد متعددة
يُعَد هذا الهجوم الأول على الكرملين مقر إقامة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، الذي لم يكن موجوداً بداخله لحظة استهدافه منذ توليه الحكم عام 199.، وأكد بيان الكرملين أن الجيش والأجهزة الخاصة عطَّلت المسيرتين اللتين نفَّذتا الهجوم؛ ما أدى إلى احتراقهما فوراً، وأكد أن الرئيس لم يُغيِّر مهامه. وكلمة الكرملين في اللغة الروسية تعني “القلعة المحصنة”، وهو بالفعل كذلك؛ لذا فإن استهدافه له العديد من الدلالات والأبعاد المتمثلة فيما يلي:
1– استهداف التأثير على هيبة الدولة الروسية: الجهة المنفذة للهجوم حقَّقت هدفها بالإضرار بهيبة الدولة الروسية، واستفزازها واستنفار مؤسساتها دون أي خسائر بشرية أو مادية. وذلك ينبع من اختيار مكان الهجوم، وهو الكرملين ذو الأهمية الاستراتيجية بقلب العاصمة موسكو الأكثر تأميناً وتحصيناً بالبلاد ورمز السلطة؛ ما أدى إلى الإضرار بهيبة الدولة الروسية، وكسر حالة الجمود في المواجهة العسكرية بين موسكو وكييف، كما كان التوقيت مميزاً؛ لأن الهجوم نُفذ عقب سلسلة من أعمال التخريب التي تعرضت لها منشآت حيوية روسية، مثل تفجير خط للسكك الحديدية، وخط لإمداد الكهرباء بجنوب سانت بطرسبرج، وحريق مستودع للوقود بشبه جزيرة القرم، اتهمت كييف بتنفيذها.
2– استباق احتفالات عيد النصر: يسبق الهجوم الاحتفالات “بعيد النصر” الروسي (الـ78) التي تعقَد في 9 مايو الحالي، وهو عيد هام رسمياً وشعبياً، يشارك فيه كل عام “بوتين” شخصياً. والعيد يرمز إلى الانتصار الروسي في الحرب العالمية الثانية (1939–1945). ومنذ بدء الحرب الأوكرانية، أضفى “بوتين” رمزية قومية على الاحتفال لتأكيد أن بلاده ستنتصر على “النازيين الجدد” بأوكرانيا كما انتصرت على “ألمانيا النازية”، وهو ما استقطب القوميين الروسي إليه، وأصبحوا مؤيدين للحرب؛ لذا سيكون “الرد الروسي” المرتقب “غير عادي”.
3– غموض حول منفذ الهجوم: اتهمت موسكو كييف بتنفيذ الهجوم، بيد أن الأخيرة نفت، وهو ما أثار التساؤلات حول الجهة المنفذة، لا سيما أن الطائرات المسيرة إذا انطلقت من أوكرانيا، فلن تتمكن من الطيران لنحو (500 ميل) حتى الكرملين، كما أن هذا يشكك في قدرات الدفاع الجوي الروسية التي لم تعترض الطائرات، وهو ما طرح افتراضات أخرى حول قيام المخابرات الروسية بتنفيذ هذا الهجوم لاتخاذه ذريعة لاستهداف قيادات سياسية أوكرانية. وربما تكون الجهة الروسية المنفذة للهجوم غير رسمية، مثل شركة “فاجنر” الأمنية الروسية، خاصةً أنه استهداف رمزي، ومنفذه يعلم أنه لن ينال من “بوتين”، بل سيؤدي إلى تصعيد العلميات العسكرية فقط، بيد أن احتمال أن تكون أي جهة رسمية نفذت الهجوم ربما يكون مستبعداً؛ لأن الهدف من الاستهداف لا يوازي الإضرار بالمكانة الرمزية للكرملين.
وهو ما يفرض تساؤلات أخرى حول إمكانية أن يكون المنفذ هو أحد أجهزة المخابرات التابعة لدول شرق أوروبا الشديدة العداء لموسكو والمؤيدة لكييف، بالتنسيق مع المخابرات الأمريكية؛ بغية تبرير تقديم المزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وربما يكون الأرجح أن يكون المنفذ هو أحد التنظيمات القومية الأوكرانية المتشددة، مثل كتيبة “آزوف” أو “سفوبودا”؛ بحيث تكون استطاعت تجنيد عدد من الأوكرانيين المقيميين داخل الأراضي الروسية لتنفيذ ذلك الهجوم، خاصةً بعد إعلان موسكو عن تفكيك شبكة أوكرانية نفذت الأعمال الإرهابية والتخريبية في شبه جزيرة القرم.
4– دعوات روسية إلى التصعيد: وصفت موسكو الهجوم على الكرملين بأنه “هجوم إرهابي مخطط، ومحاولة لاغتيال رئيس الدولة. وروسيا تحتفظ بالحق في اتخاذ إجراءات للرد متى وكيفما تراها مناسبةً”، بينما اتخذت سائر ردود الأفعال دعوات للتصعيد؛ كان أبرزها دعوة نائب رئيس مجلس الأمن الروسي “دميتري ميدفيديف” إلى اغتيال الرئيس الأوكراني “فلاديمير زيلينسكي وعصابته”، على حد قوله، ومطالبة رئيس مجلس الدوما “فياتشيسلاف فولودين” باستخدام “أسلحة قادرة على تدمير النظام الإرهابي الأوكراني” في إشارة إلى الأسلحة النووية التكتيكية.
بينما أكد نائب حزب “روسيا العادلة” بمجلس الدوما “سيرجي ميرونوف” أن “محاولة اغتيال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، توفر مسوغاً لشن حرب حقيقية وتصفية قيادة أوكرانيا” (جدير بالذكر أن موسكو ما زالت تطلق على الحرب الأوكرانية “العملية العسكرية الخاصة” منذ بدايتها في 24 فبراير 2022).
من جهة أخرى، أعلن عمدة موسكو “سيرجي سوبيانين” أن العاصمة قررت حظر إطلاق الطائرات المسيرة في سمائها باستثناء طائرات الدولة؛ وذلك خشية تنفيذ هجمات مماثلة لإفساد الاحتفالات العسكرية في 9 مايو الحالي التي ستُجرَى “بالساحة الحمراء” قرب الكرملين، بينما وصف المتحدث باسم الرئاسة الروسية “دميتري بيسكوف” النفي الأمريكي والأوكراني للتورط بالهجوم، بأنه “سخيف؛ لأن واشنطن تتخذ القرار وكييف تنفذه”.
5– تشكيك غربي في الرواية الروسية الرسمية: نفى الرئيس الأوكراني “زيلينسكي” خلال حضوره قمة “دول شمال أوروبا” بفنلندا تدبير الهجوم على الكرملين، وأكد: “ندافع عن أراضينا ولا نهاجم بوتين أو موسكو.. لا نملك ما يكفي من الأسلحة للقيام بذلك”، وبرر اتهام موسكو لبلاده بأنها “لم تحقق انتصارات كافية”. واتهم مستشاره السياسي “ميخايلو بودولياك” موسكو بتنفيذه؛ “لأن استمرار موسكو في السيطرة على نحو 20% من الأراضي الأوكرانية يشجعها على أعمال أكثر تطرفاً”.
بينما شككت واشنطن وباريس في الرواية الروسية، وأوضح وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” أنَّه لا يستطيع إثبات صحة الاتهام الروسي لأوكرانيا، وينظر إليه بعين الريبة. ونفى منسق الاتصالات الاستراتيجية بمجلس الأمن القومي الأمريكي “جون كيربي” أي مشاركة من جانب بلاده في هذا الهجوم؛ لأنها “لا تشجع على أي هجمات على أي زعماء أو خارج الأراضي الأوكرانية”. بدورها وصفت وزيرة الخارجية الفرنسية “كاترين كولونا” الرواية الروسية للهجوم بأنها “غريبة” وانتقدت الدعوات إلى اغتيال “زيلينسكي”، ورغم هذا أكدت أن باريس ستحافظ على “قنوات الاتصال مع روسيا لبدء التفاوض ووقف الحرب”. بدورها أوضحت الأمم المتحدة أنه لا يمكنها تأكيد المعلومات حول الهجوم على الكرملين ودعت موسكو وكييف إلى التخلي عن أي خطوات تصعيدية.
السيناريوهات المقبلة
أعلن رئيس لجنة التحقيق الروسي “ألكسندر باستريكين” أنه تم رفع دعوى جنائية بموجب المادة 205 من القانون الجنائي لروسيا الاتحادية، بالعمل الإرهابي ضد الكرملين، بيد أن الرد الروسي لن يتوقف على الشقين السياسي والقانوني، خاصةً أنها لم تترك أي ضربة عسكرية أوكرانية دون الرد المناسب عليها؛ لذا فإن هناك عدة لسيناريوهات؛ منها:
1– استهداف روسي للمدن الحيوية: غداة الهجوم على الكرملين، كثفت موسكو استهداف مدن أوكرانية حيوية؛ حيث أطلقت نحو 24 طائرة مسيرة على مدينة أوديسا الاستراتيجية على البحر الأسود، وعلى منطقة “بريانسك” على الساحل الشرقي لبحر آزوف، وكذلك شهدت خيرسون قصفاً مدفعياً مكثفاً. وربما يكون هذا بداية للرد الروسي على استهداف الكرملين عبر استهداف المدن الحيوية الأوكرانية، واستباق “هجوم الربيع” الأوكراني الذي تُعِد له كييف منذ مطلع العام، وهو ما سيحقق لموسكو مكاسب عسكرية جديدة إذا تمكنت من السيطرة على أي من تلك المدن الاستراتيجية بالكامل.
2– التفكير في اغتيال القيادة الأوكرانية: دعا “بوتين”، في ثاني أيام العملية العسكرية منذ عام ونيف، إلى “تحرير أوكرانيا من العصابة التي تحكمها”، وقد تكررت الدعوات مرة أخرى الآن رداً على استهداف “بوتين” شخصياً. وهذا ربما يتم عبر استهداف الرئيس الأوكراني ووزير دفاعه أو المنشآت الحيوية ومقار الحكومة الأوكرانية في كييف. وإذا تم ذلك فإنه ربما يعيق “هجوم الربيع” المنتظر، وإذا اغتيل “زيلينسكي” بالفعل فسيكون هذا بداية مرحلة جديدة من الحرب الأوكرانية.
3– إمكانية استخدام الأسلحة النووية: أصبح واضحاً أن موسكو تواجه المزيد من الصعوبات في حسم المعارك العسكرية بأوكرانيا لصالحها، لا سيما في ظل استمرار الدعم العسكري واللوجستي الأمريكي والأوروبي المكثف لكييف، مقابل استمرار فرض عقوبات دولية على موسكو، وهو ما يدفع الأخيرة إلى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية المحدودة تجنباً للمزيد من الخسائر العسكرية، لا سيما إذا بدأت كييف “هجوم الربيع”؛ لأن شخصية “بوتين” لن تسمح بخسارة الحرب التي يراهن عليها سياسياً لتغيير النظام الدولي وفق رؤيته.
4– استهداف روسي للمصالح الغربية: تؤكد موسكو تورط واشنطن في الهجوم على الكرملين، وتوعدت بالرد عليه؛ لذا ربما تلجأ إلى استهداف غير مباشر للمصالح الأمريكية والغربية، مثل شن هجمات إلكترونية على المنشآت الحيوية والعسكرية؛ ما يعيق عملها، أو قطع كابلات التوصيل البحري بالمسطحات المائية الدولية، أو إثارة التوترات بالأقاليم ذات الاهتمام الروسي الأمريكي المشترك مثل أفريقيا وآسيا الوسطى، بغية تقليص النفوذ الأمريكي فيها لصالح نظيره الروسي.
5– ضغط خارجي لبدء التفاوض: رغم إطالة أمد الحرب فإن التفاوض سيكون الحل الأخير لها. ورغم التصعيد المنتظر من موسكو وكييف، فإنه بالتوازي مع ذلك، ثمة جهود لبدء التفاوض؛ منها المبادرة الصينية التي وافقت عليها موسكو ورفضتها كييف، واستمرار الاتصالات الفرنسية مع موسكو. وربما تؤتي هذه الجهود ثمارها، لا سيما في ظل فشل أي من الطرفين في “الحسم العسكري” للحرب، وما يثار حول الرفض الأمريكي لاستمرار مد كييف بالأسلحة والصواريخ البعيدة المدى؛ ما يعوق تقدم الجيش الأوكراني. وبعد الهجوم على الكرملين، لن توفر موسكو أي جهد لاستهداف الأسلحة الأمريكية بالقرب منها، وهذا سيؤدي إلى المزيد من التصعيد الذي سيكبد كافة الأطراف خسائر طائلة؛ لذا سيكون من الأفضل البدء في التفاوض.
ومما سبق، نرى أنه أياً كانت الجهة المنفذة للهجوم على الكرملين، فإنها حققت هدفها بكسر حالة الجمود العسكري، ودفع الطرفين إلى التصعيد، واستقطاب التيارات القومية لكل طرف؛ لذا فإن العمليات العسكرية ستشهد مرحلة جديدة تمثل “نقطة تحول” لها بعد بدء الرد الروسي على استهداف الكرملين.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز الإعلام والدراسات الفلسطينية، وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً