(مجلة فتح العدد – 758)
دخل الكيان الصهيوني عام 2023م، وهو يواجه مجموعة من التهديدات الاستراتيجية، على عدة مستويات، وقد أوضح التقدير الاستراتيجي لمعهد الأمن القومي «الإسرائيلي» في مقدمته، أن «إسرائيل» على المستوى الدولي تواجه صراعاً محتدماً بين الولايات المتحدة الأميركية وبين الصين على التأثير في الخارطة الدولية، بالإضافة إلى الحرب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا، ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، ووصولها إلى حد يمنع «إسرائيل» من التزامها بسياسة الحياد.
هذه التهديدات تقلل من هامش المناورة «الإسرائيلية» في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدبلوماسية، بل وتجعلها مطالبة بإحداث تغيير استراتيجي في سياستها الخارجية السائدة حالياً، خاصة أن التهديد الخارجي الأخير مرتبط بوصول إيران إلى دولة شبه نووية، كما يتحدث التقدير الاستراتيجي، وأن ذلك معناه انهيار حقيقي لأسس الأمن القومي «الإسرائيلي»، المبني على احتكار القوة النووية في الشرق الأوسط، كقوة ردع استراتيجية.
كشف «معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي» بجامعة تل أبيب أنه في 2023 ستواجه «إسرائل» خمسة تهديدات رئيسة على الصعيدين الداخلي والخارجي، في ظل العديد من المتغيرات التي رافقت الانتخابات الأخيرة، والوضع الفلسطيني، أو ما يجري على الساحة الدولية:
التهديد الأول: حدد المعهد أن العلاقة «الإسرائيلية» الأمريكية في خطر، ووضعها على رأس قائمة التهديدات، كونها أحد أركان الأمن القومي للاحتلال، بسبب ابتعاد الجاليات اليهودية هناك عن «إسرائيل»، وتحول الولايات المتحدة لتكون أقل اهتماما بالشرق الأوسط، وبالتزامن مع إقامة حكومة يمينية «إسرائيلية» واضحة فإن للإدارة الأمريكية أجندة ليبرالية، ما يكثّف عمليات تباعدهما، وتهدد بتقويض الدعم الأمريكي التقليدي «لإسرائيل» على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، ما يضر بمكانتها الدولية والإقليمية، وقدرتها على التعامل مع التهديدات الرئيسية.
التهديد الثاني: يتمثل بالتخوف «الإسرائيلي» من اندلاع انتفاضة مسلحة في الضفة الغربية، لأنه في الوقت الذي تسير فيه الساحة الفلسطينية نحو نهاية عهد أبو مازن، وبعد تصعيد العمليات الفدائية، تتزايد احتمالات التفجير، والخطر يتصاعد من صحوة عنيفة قد تندلع لانتفاضة مسلحة رداً على تحركات الاحتلال، خاصة مع ضعف السلطة الفلسطينية وتقوية المقاومة في غزة، ما قد يزيد من التوترات الأمنية بين شريحة واسعة من الشباب.
التهديد الاستراتيجي الخطير الثالث: يتمثل بالانجراف لواقع دولة واحدة، ما سيعرّض للخطر هوية «إسرائيل» اليهودية، بالتزامن مع جهود الاحتواء المتآكلة بسبب إجراءات «الضم الزاحف»، وعودة القضية الفلسطينية للخطاب على الساحة الدولية، لاسيما جرّ «إسرائيل» لمحكمة العدل الدولية في لاهاي..
التهديد الرابع: هو النووي الإيراني، كونه أخطر تهديد خارجي محتمل تواجهه «إسرائيل»، لأنه في أخطر حالاته، وباتت أقصر مسافة من دولة عتبة نووية، وبعد سنوات من انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، تتقدم الخطة الإيرانية بخطوات متسارعة تسمح لها بإكمال بناء جهاز متفجر، وإجراء تجربة نووية، وخلال عامين حيازة رأس حربي نووي، بجانب مواصلة ترسيخ وجودها الإقليمي في سوريا والعراق ولبنان واليمن وغزة، مع نقل الأسلحة والتقنيات المتقدمة لحلفائها.
التهديد الخامس: الانقسام الداخلي في المجتمع «الإسرائيلي» الذي يستهدف مستقبل «الدولة»، من خلال الاستقطاب الاجتماعي المتفاقم الذي يضعف الحصانة الاجتماعية، وهو أمر بالغ الأهمية في قدرتها على التعامل مع التهديدات الخارجية لها، بسبب التوترات المتصاعدة بين مكونات الدولة السكانية، والشعور بانعدام الحكم والأمن الشخصي، ما قد يخلق آثارًا خطيرة لتطبيق القانون في «الدولة»، وتشكيل مليشيات مسلحة.
في نهاية التقدير الاستراتيجي يضع المعهد جملة من التوصيات الرئيسية، لعل أهمها اتخاذ إجراءات فعالة للحفاظ على العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، والحفاظ على التنسيق الوثيق والحميم معها بشأن قضية البرنامج النووي الإيراني، والعمل على توسيع العقوبات على إيران، والإبقاء على العلاقة مع رأس السلطة الفلسطينية لتنفيذ خطة لتعزيز أجهزتها الأمنية برعاية أمريكية، وتعزيز التحركات التي توسع فرص عملها بالأراضي الفلسطينية، لأن إضعافها الدراماتيكي يتعارض مع مصلحة «إسرائيل»
أما بالنسبة لجيش الاحتلال، فقد أوصى المعهد بالتركيز على بناء قوات برية نظامية واحتياطية، والتحضير لتشكيل مذكرة تفاهم أمنية جديدة مع الولايات المتحدة، والاستعداد لردّ عسكري رادع ضد حزب الله باستخدام عمليات سرية لمواصلة إضعافه، وتثبيت الردع ضده، لكن «المعهد الإسرائيلي» شهد خلافا بشأن مفعول «المعركة بين الحروب» في سورية.
أهم الجهات الصانعة لقرارات الأمن القومي «الإسرائيلي» وقدراتها، سواء بشكل رسمي مباشر أو بشكل غير رسمي وغير مباشر:
أولاً، الحكومة والكابينت «الإسرائيليان»، بات من الواضح أنه في ظل وجود الصهيونية الدينية والحريديم كقوة مركزية داخل الحكومة والكابينت، وعدم قدرة نتنياهو على التحكم في تلك القوى السياسية الدينية المتطرفة، ذات الأجندة الأيديولوجية الفاشية، كما حدث في أكثر من واقعة خلال عمر الحكومة القصير.
إن تشكيلة الحكومة الحالية هي أهم أجزاء الإشكالية، ولا يمكن لها أن تكون صانعة حلول استراتيجية، فرغم أن نتنياهو حدد ثلاثة خطوط عامة لحكومته في خطاب التنصيب، وهي، مواجهة المشروع النووي الإيراني، وتوسيع دائرة التطبيع مع الدول العربية والإسلامية وخاصة السعودية، ومواجهة المقاومة الفلسطينية، لكن تأثير الصهيونية الدينية جعل الملف الفلسطيني والاستقطاب الداخلي اليهودي هما الأكثر أولوية في أهداف الحكومة، رغم كل التحذيرات من الانعكاسات السلبية لهذا الأمر على الأهداف الأخرى.
حتى في الملف الفلسطيني، هناك نوع من أنواع الديماغوجية والعشوائية من قبل وزراء الكابينت المؤثرين في صنع القرارات المتعلقة بالملف الفلسطيني، وفي مقدمتهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير الأمن داخل وزارة الحرب بتسلال سيموتريتش، كما أن تصرفاتهم وقراراتهم تزيد من حجم التهديدات ولا تقللها، وتؤدي بالأمور إلى مزيد من التصعيد، كما حذر من ذلك رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) رونين بار:
ثانياً، المؤسسة العسكرية و«الجيش»، رغم أن «الجيش الإسرائيلي» يلعب دوراً مركزياً غير مباشر في صنع قرارات الأمن القومي «الإسرائيلي»، فإن تأثيره بات أقل مما سبق، في ظل الحكومة الحالية، التي سحبت الكثير من صلاحياته في الملف الفلسطيني والضفة الغربية والقدس، لدرجة أن البعض يتحدث عن وجود رئيسي أركان ووزير حرب في الحكومة الحالية، ولذلك بدأ «الجيش» ورئيس أركانه يخوضان معركة الصلاحيات والموازنات مع أقطاب الحكومة الحالية، والتي تهدد بانهيار الائتلاف الحكومي ما لم ينفذ نتنياهو اتفاقات الائتلاف الحكومي الموقع عليه.
من الجهة الأخرى، يخوض «الجيش» المعركة وحده داخل الكابينت من دون تدخل جاد وصارم من نتنياهو، الذي يحاول هو الآخر أن يخلق صداماً بين «الجيش» وحلفائه في الائتلاف من أجل زيادة هامش سيطرته على الحكومة.
أضافة إلى ذلك، تأثيرات حالة الاستقطاب المجتمعي الداخلي في «إسرائيل»، والتي باتت تهدد بدخول «الجيش» إلى معترك الاستقطاب الداخلي السياسي والأيديولوجي، كما حذر من ذلك الجنرال المتقاعد يتسحاق بريك، وبالتالي يفقد «الجيش» ميزته بأنه جسم فوق حزبي وفوق أيديولوجي يمثل بوتقة الصهر «الإسرائيلية»، والأهم سطوته في صنع قرارات الأمن القومي الإسرائيلي.
ثالثاً، الولايات المتحدة الأميركية لها دور مهم في صنع توجهات الأمن القومي «الإسرائيلي»، سواء بتدخلها المباشر أو بواسطة علاقاتها القوية مع كل من المؤسسة العسكرية والحكومة في «إسرائيل». ولكن، في ظل هذه الأجواء «الإسرائيلية»، من الواضح أنه، رغم تدخل الرئيس الأميركي جو بايدن غير المسبوق، وتحذير السفير الأميركي في «إسرائيل» لنتنياهو، فإن اعتبار جزء كبير من الحكومة أن تدخل الولايات المتحدة الأميركية يصبّ في مصلحة طرف سياسي وتوجّه أيديولوجي معين، جعل من تأثير الأميركيين أقل مما كان في السابق.
.