أحمد علي هلال
(مجلة فتح العدد – 756)
«أنا المطارد عدي التميمي من مخيم الشهداء شعفاط، عمليتي في حاجز شعفاط كانت نقطة في بحر النضال الهادر، أعلم أنني سأستشهد عاجلاً أم آجلاً، وأعلم أني لم أحرر فلسطين بالعملية، ولكن نفذتها وأنا أضع هدفاً أمامي، أن تحرك العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية بعدي».
تلك الوصية الباهرة للشهيد المشتبك عدي التميمي، وتلك كلماته التي تكثف سفر الشهادة وحوافز الكفاح، ويقينه أنه سيستشهد، لكنه سيدشن الطريق الذي مشى عليه من سبقوه من الشهداء ومن سيلحق به ذلك هو قدر فلسطين العالية المتعالية، أن تستقبل شهدائها لا أن تودعهم، لأنهم صورتها الأخيرة، صورة قيامتها وبعثها، لتزيّن جيدها بأيقوناتهم وليلتمع في الظلام رصاصهم قبساً من نور يضيء حلكة الخارطة، وتلك صورته مشتبكاً هي الحدث بذاته، وما فوق الإلهام بإلهام، لأنه فلسطين سياقاً وتاريخاً وهوية، بل ثقافة مقاومة تجذرت طويلاً في الوعي والذاكرة، ذاكرة أولئك الشباب الذين كبروا ولم ينسوا، وقبضوا على جمر قضيتهم بأصابع قلوبهم وخفقها، وذلك دم الغزال صريحاً على أرض الجلجلة واليد على زناد الوقت والأمنيات، والقلب يسرع أكثر لترهج الأرض بنبضه، ذلك النصر المقاوم المقدود من آلام مديدة وجراحات أثخنت الذاكرة، واحتلال جاثم على صدر الزنابق ونسغ الينابيع وكريات الدم وذرات الهواء.
يذهب التميمي مقاوماً ليكتب ببضع قطرات من الدم سيرة فلسطين من التاريخ إلى التاريخ، يا لهذه الفلسطين كم احتشد الورد بدمه على شرفاتها وفي سهولها وفي روابيها وأعالي قممها، لينحني الغيم لدم صار جداولاً ولحبة الليمون صارت خصباً أزلياً، فعلى أرض البدايات وأرض النهايات تقول حكاية التميمي: ولدنا في العاصفة والتحفنا الجرح أغنية، وسارت بنا الدروب إلى القدس مهوى الكلام، والبلاغة المنثورة بحبر القلوب، لينهض جيل إثر جيل، وتتوهج في الروح البلاد… يا أنتم كم مشت إليكم الأقدار، ومشيتم إليها لتعرفوا أن جيلاً كبر في العاصفة صار بحجم ما نسيه التاريخ وما استدركته الجغرافيا، وما وطّنتهُ اللغة في أبجديتها المقاومة.
يا لحناء دمك يا التميمي الوقت والأسئلة والأزمنة الرجيمة، صار دمك أول البهاء.. صار دمهم ملتقى السنابل والكبرياء، يا لصورتك الأخيرة وأنت تقاومهم بميراث أجداد وآبائك، بكل غضبك المقدس أيها المتقحم أزيز الرصاص، وكم خجل منك الرصاص رصاصهم الضرير، الذي خدش جسد السنبلة ولم يقتل وطناً/ جمرة مخبوءة بين العينين، داخل مكانك والزمان أنت الحقيقة فكيف للتاريخ أن يسردها، وللتاريخ عين، قد جمعت كل تمائمنا في أمداءك الواسعة كأنك والأرض جرح واحد، وعلى الشغاف يسيل الندى، ولبروقه كلها تضبط الشمس إيقاعها ويستوي السطر ما قبل الأخير في الأبجدية المضارعة لفلول العتمة كلها… أيها التميمي انهض الآن لتقوم الفلسطين ثقافة للأحياء، وأبناء الحياة، وأساطيرهم الجديدة، يا لعنفوان وقتك القليل الكثير والعميق والممتد في ذاكرة الزنابق والزنزلخت وأرض البرتقال الذي لم يعد حزيناً، صار هوية ونقشاً في الروح واللغة ذاتها.
فإلى أين يذهب الشهداء هذا المساء، قالت ذاكرة الزنابق: هم لا يذهبون بل يأتون ليصير للصبح طعم الولادة، وللنهار راية وللأزمنة أسرارها الواضحة مثل دم جهرت به الأمكنة.. سلام سلام.