عبد الله جمال
اكتسبت مجموعة “بريكس”، خلال الفترة الأخيرة، المزيد من الزخم؛ ففي شهر يوليو الماضي، عُقِدت القمة الرابعة عشرة لمجموعة “بريكس” المُكوَّنة من (روسيا، والصين، والهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا)؛ وذلك في ظل ما يشهده العالم من تداعيات في غاية الخطورة من جراء الحرب الأوكرانية؛ إذ يتمتَّع ذلك التجمُّع بقوة اقتصادية جماعية لا يمكن إغفالها، لا سيما أنه يضم في عضويته خمس دول تسيطر على نحو 41% من سكان العالم، كما تغطي مساحة الدول الأعضاء نحو 40 مليون كيلومتر مربع؛ أي ما يعادل 26% تقريباً من إجمالي مساحة العالم، فيما تستحوذ دول التجمع على نحو 26% من الناتج الإجمالي العالمي بحسب تقديرات عام 2021. ومن المُتوقَّع أن تصل هذه النسبة إلى 33% بحلول عام 2030، فضلاً عن ذلك فإن إجمالي الاحتياطي النقدي الأجنبي المشترك لدول التجمع، يُقدَّر بنحو 4 تريليونات دولار؛ لذا لاقت القمة الأخيرة للتجمع زخماً دولياً كبيراً؛ لما لقرارات وسياسات دول التجمع من أهمية وتأثير؛ ليس على داخل التجمع فقط، بل قد تمتد تلك التداعيات المحتملة إلى قرار التجمُّع للتأثير على مستقبل النظام الاقتصادي العالمي.
أبعاد ديناميكية
في خضم التداعيات السلبية للأزمة الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي، ثمة مساعٍ حثيثة لدول “بريكس” إلى زيادة دورها في النظام العالمي خلال الفترة الأخيرة، بهدف جذب الدول النامية إلى الخروج من تحت عباءة توجهات الدول الغربية، والانضمام إلى سياسات هذا التجمع الصاعد من خلال عدة محاور. ويمكن إيجاز أبرز الديناميكيات الراهنة للتجمع على النحو التالي:
1– المراهنة على المساعدات الاقتصادية: يتخذ أعضاء بريكس الحرب الأوكرانية فرصةً لإقناع العالم بأن التكتل يمكن أن يكون خياراً اقتصادياً مناسباً في مقابل المؤسسات التي يقودها الغرب، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، دون وضع شروط إلزامية أو تعسفية لتقديم يد العون إليهم، لا سيما قدرته على تقديم المساعدات المالية والمزيد من الاستثمار، من خلال مظلة بنك التنمية الجديد الذي يقوده التكتل منذ إنشائه عام 2014، وهو ما يعد اتجاهاً قوياً لدول “بريكس” نحو زيادة نفوذه بوصفه لاعباً عالمياً مؤثراً، ومحاولة جذب مزيد من الدول النامية المتعطشة للتمويل المستمر لمشروعاتها التنموية، وبأسعار فائدة معقولة.
2– لوبي للدفاع عن الدول الأعضاء في المؤسسات الدولية: ينعكس تشكيل “بريكس” كتكتل في السلوك الانتخابي للدول المكونة له داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ حيث غابت تصريحات الإدانة العلنية بشكل ملحوظ من جانب البرازيل وجنوب أفريقيا والهند والصين للحرب الأوكرانية، وبالرغم من تصويت البرازيل لصالح قرار الأمم المتحدة بإدانة الحرب، فإنها اعترضت على المقاطع التي نصَّت صراحةً على “العدوان الروسي”، كما انتقدت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، فضلاً عن امتناع باقي دول التجمُّع عن التصويت، منتقدةً في ذلك اللهجة الشديدة للقرار الأممي، بل أكدت أن مخاوف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأمنية مشروعة، لا سيما فيما يتعلق بتوسيع حدود حلف الناتو.
3– الخطاب الرافض للتصورات الغربية: أثناء حضورها القمة الرابعة عشرة لمجموعة “بريكس”، أشاد الرئيس الصيني شي جين بينج، بمواقف دول الأسواق الناشئة والدول النامية الأخرى ذات الصلة، التي وصفها بأنها أكثر مرونةً وحيويةً، بل وحثَّهم على مُقاوَمة عقلية الحرب الباردة، والتخلي عن مفاهيم الهيمنة الغربية، كما كانت رسائل نظيره الروسي أكثر معاداةً للغرب؛ حيث اتَّهم الولايات المتحدة وحلفاءها من الغرب بالرغبة في بناء نظام اقتصادي عالمي جديد، لا سيما خلق أزمة غذاء عالمية يتضرَّر منها الدول النامية والأكثر فقراً من خلال عقوباتهم.
4– الاستناد المتزايد إلى القدرات الصينية: تلعب الصين دوراً رائداً في مجال الثورة الصناعية، وتتنافس مع نظيرتها الأمريكية على زعامة هذا المجال؛ لذا تعمل على استغلال هذا التجمع من أجل استقطاب دوله للاستفادة والتعاون بشكل مشترك في مجالات تشمل (تقنيات الجيل الخامس”5G”، والذكاء الاصطناعي، والتصنيع الذكي)، فضلاً عن تطلعها إلى بناء الشراكات الصناعية، وتعزيز القدرات في مجالات تطوير تقنيات الاتصالات والمعلومات، بجانب تقديم سلسلة من المشروعات التكنولوجية لدول “بريكس” من خلال بنك التنمية الوطني الجديد، الذي يهدف إلى تقديم 30 مليار دولار لدول التجمع وغيرها من الدول النامية؛ من أجل تنفيذ المشروعات الاستثمارية المشتركة، خاصةً في مجال الثورة الصناعية الجديدة.
تحفيز التكتل
ثمَّة أهداف متعددة قد تُفسِّر دوافع الدول الخمس الأعضاء لتعزيز أطر التعاون المشتركة بينهم، خاصةً في ظل التداعيات التي فرضتها الحرب الأوكرانية على العالم. ويمكن الإشارة إلى أبرز الأسباب المُفسِّرة لتلك التحركات المتصاعدة فيما يلي:
1– الالتفاف على العقوبات الغربية: أعلن الرئيس الروسي “بوتين” أن بلاده بصدد تغيير مسار التجارة البينية والصادرات النفطية إلى دول مجموعة “بريكس” وغيرها من الأسواق الناشئة نتيجة العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، في محاولة لإحلال تلك الأسواق محل نظيرتها الغربية، وهو ما انعكس في الزيادة الملحوظة لصادرات النفط الروسي إلى الصين والهند خلال الأشهر الماضية، في إشارة إلى مساعي موسكو للالتفاف على العقوبات الغربية.
وبالرغم من أن البعض قد يرى أن ذلك التعاون قد يأتي في ظل تحالف شرقي بين الدول الثلاثة، بالإضافة لكوريا الشمالية، فإنه لا يمكن إغفال أن ذلك قد يصبُّ في مصلحة التجمع؛ إذ يثبت فاعليته باعتباره نظاماً بديلاً تُقدِّمه روسيا بالشراكة مع بقية الدول الأعضاء، خاصةً أن روسيا تعمل أيضاً على تطوير آليات بديلة للتسويات المالية الدولية، بالاشتراك مع شركائها في “بريكس”، مثل توسيع نطاق نظام الدفع الروسي MIR، وبحث إمكانية إنشاء عملة احتياطي دولية على أساس سلة عملات التجمع.
2– مواجهة أزمة الغذاء: دفعت المخاوف بشأن تهديدات الأمن الغذائي العالمي، أعضاء “بريكس” إلى تبادل المحاصيل الاستراتيجية التي تتمتع بها كل دولة بوفرة كبيرة في إنتاجها، وأهمها الحبوب؛ إذ يمكن لمثل هذا التبادل في وقت لاحق أن يشمل تصدير المنتجات الزراعية إلى الأسواق الناشئة الأخرى الراغبة في الانضمام إلى التكتل؛ الأمر الذي يمثل مصدراً جذاباً إضافياً للدول الأخرى يشجعها على الانضمام إلى التجمع، أو تكثيف التعاون معه كحد أدنى.
3– دعم موسكو دولياً: وذلك في إشارة إلى احتمالات تكوين التجمع حائطاً دفاعياً لموسكو ضد الرأي العام العالمي؛ فقد اكتفى بيان القمة الأخيرة المنعقدة في يوليو الماضي، بالإعراب عن قلق المجموعة إزاء الوضع الإنساني في أوكرانيا، فضلاً عن دعمها جميع المساعدات الإنسانية لأوكرانيا، بما في ذلك مساهمات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ووكالات الأمم المتحدة، ولكن في الوقت ذاته أعرب أيضاً عن قلق دول التجمع بشأن التأثير الخطير للعقوبات الأحادية الجانب على الحليف الروسي؛ لما لها من تأثير سلبي على تعافي الاقتصاد العالمي، واستقرار سلاسل الصناعة والإمداد، وتأمين إمدادات الطاقة وتحقيق الأمن الغذائي.
4– تأكيد مكانة التجمع في النظام الدولي: أعربت دول “بريكس”، في أكثر من مناسبة، عن إحباطها من افتقارها إلى أدوات التأثير في المؤسسات الدولية التي يهيمن عليها الغرب؛ إذ تسعى كل من البرازيل والهند وجنوب أفريقيا حالياً إلى رفع مكانتها في النظام الدولي، عن طريق الضغط للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولكن دون جدوى حتى الآن. فضلاً عن ذلك فإن أعضاء “بريكس” يريدون أن يُنظَر إليهم على أنهم الملجأ الآمن للدول النامية للتغلُّب على الآثار الاقتصادية السلبية للأزمة الأوكرانية، معتمدين في ذلك على نفوذهم الديموغرافي والاقتصادي الجماعي، وقدرتهم على مساعدة البلدان المتوسطة الدخل والفقيرة على اتباع سياسة التوازن للتعامل مع تلك الآثار.
تحديات محتملة
يظل نجاح دور تجمع البريكس في بناء نظام اقتصادي عالمي جديد، لا تهيمن فيه الدول الغربية بمؤسساتها المختلفة على السياسات الاقتصادية، مرهوناً بتجاوز عدة تحديات رئيسية، من أبرزها:
1– سياسة خارجية غير موحدة: قد تتَّفق بكين وموسكو على اتخاذ مواقف أكثر صرامةً ضد الغرب، لكن نيودلهي لا ترغب في انتقاد الغرب صراحةً؛ حيث تفخر بـاستقلاليتها الاستراتيجية وسياسة عدم الانحياز؛ فعلى سبيل المثال انتقدت موسكو وبكين تحالفَي “أوكوس” و”الرباعية” باعتبارهما امتداداً للناتو في آسيا، لكن هذا لم يمنع نيودلهي من التعهُّد بدعم مبادرات المجموعتَيْن في المحيطَيْن الهندي والهادئ، ما لم تتعارض مصالحهما مع أهدافها في المنطقة، لا سيما أنها أحد أعضاء “الرباعية”، ومن ثم فإن من الصعب نجاح أهداف “بريكس”، في ظل وجود وجهات نظر متناقضة بين أعضائه حول العديد من القضايا العالمية، خاصةً المتعلقة بنفوذ كلٍّ من روسيا والصين.
2– التأثير المعاكس للنزاعات الداخلية: تُواجِه دول “بريكس” نزاعات وخلافات داخلية فيما بينها، منها خطة توسيع عضوية التجمع؛ حيث قد تعوق نيودلهي مساعي بكين لإدراج أعضاء جدد بالتجمع، نتيجة عدم رغبتها في رؤية المزيد من الأعضاء في مجموعة تلعب فيها الصين دوراً مهيمناً؛ لأنها تخشى المزيد من النفوذ الصيني على الصعيد العالمي، كما أن نجاح هذا التكتل سيعتمد على مدى قدرة البلدين على إدارة خلافاتهما حول هذه القضية وغيرها من القضايا، بما فيها نزاعاتهما الحدودية المستمرة؛ وذلك بما يتناسب مع مصالحهما المشتركة، وبما يتشابه مع شراكتهما داخل منظمة شنجهاي للتعاون، وكذا تعاونهما خلال قمة مؤتمر المناخ للأمم المتحدة (COP26) للرد على قبول أهداف صعبة لخفض الانبعاثات.
3– قدرة الأسواق الناشئة على الانضمام إلى التكتل: بالرغم من أن البعض يتوقع أن يشهد التكتل مزيداً من الزخم في ظل وجود رغبة حقيقية من عدة دول في الانضمام إليه، مثل مصر والسعودية والجزائر وتركيا والأرجنتين، فإن ذلك النجاح لا يزال مرهوناً بأمرين؛ أولهما درجة الضغط الأمريكي على تلك الدول لإجبارها على عدم الانضمام إلى تجمع غير متحالف مع النظم الاقتصادية الغربية، خاصةً أن الدول الراغبة في الانضمام لا تزال في حاجة كبيرة إلى مساعدات المؤسسات الاقتصادية الغربية، ثانيهما درجة اتساق المواقف السياسية والاقتصادية للدول الأعضاء، خاصةً تركيا التي تتمتع بعضوية حلف الناتو؛ الأمر الذي قد يزيد التعقيدات حول مدى تقارب وجهات النظر فيما بينهم.
4– معضلة الاتفاق على إزالة الدولرة: تقود كل من روسيا والصين مبادرة لإزالة الدولرة داخل دول “بريكس”، وقد أيَّدت الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا تلك المبادرة، وقد ظهر ذلك جلياً عندما اتجهت كل من الصين والهند إلى تنشيط حركة التجارة الدولية مع نظيرتهما الروسية باستخدام العملات المحلية الثلاث، ومن ثم سيعتمد نجاح أداء هذا التكتل على مدى قدرته على تقليل الاعتماد على الدولار في مبادلاتها الدولية، على الأقل فيما بينها، خاصةً أن دول التجمع، ما عدا روسيا، لا تزال تتمتع بعلاقات اقتصادية وثيقة بالدول الغربية، ومن ثم سيصعب عليها فكرة التخلي الكامل عن استخدام الدولار والاعتماد على سلة عملات “بريكس” فقط. وما سيعقد الأمور أكثر هو احتمالات انضمام دول أخرى إلى المنظمة، ومدى قدرتها على التخلي عن الدولار واستبدال العملات الأخرى به.
خلاصة القول: مما لا شك فيه أن “بريكس” يشكل واحداً من أبرز ملامح التحول والتغير التي تعصف بالعالم، لكنه لم يَرْقَ حقاً إلى مستوى التوقعات على مر السنين؛ إذ إن من غير المُرجَّح أن يتحوَّل إلى تكتل بديل للتكتلات الأخرى المُهمِين عليها الغرب، على المدى القريب، نتيجة استمرار وجود نقاط خلافية فيما بين أعضائه تجاه عدة ملفات مشتركة، لا سيما أن بعض دول “بريكس”، كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، ترتبط بعلاقات قوية بالغرب، خاصةً في المجال الاقتصادي.
(إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي « مركز الإعلام والدراسات الفلسطينية وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً)