إن سلسلة استراتيجيات جرائم الحرب المروعة التي انتهجتها تل أبيب ــ من توجيه هنيبعل إلى عقيدة الضاحية ــ لم تكن شيئاً مقارنة بالخطر الوجودي الذي يواجهه الفلسطينيون في ظل خطة الجنرالات الإسرائيلية الجديدة: وهي مخطط منهجي للتطهير العرقي وإعادة توطين اليهود في القطاع.
ويليام فان واغنن
تظهر الفظائع الإسرائيلية في شمال غزة على مدار الأسابيع الماضية، الوحشية التي يمكن أن تصل إليها القيادة الإسرائيلية عندما تُرفع جميع القيود السياسية والعسكرية
المحرقة التي يعيشها الفلسطينيون في غزة يجسدها فيديو انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي لجريح يبلغ من العمر 19 عامًا، شعبان الدلو، وهو يحترق حتى الموت بينما لا يزال متصلًا بأنبوب المصل. فقد أدت غارة جوية إسرائيلية في 13 تشرين الأول/أكتوبر إلى إشعال النار في خيام تؤوي عشرات الأسر الفلسطينية النازحة في ساحة مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح.
“لا أستطيع أن أصف شعوري. رأيت أخي يحترق أمامي وأمي كانت تحترق أيضاً”، قال شقيق الدلو، محمد، البالغ من العمر 17 عامًا، والذي فرّ من الخيمة عندما سمع الضربة.
والدة الدلو احترقت حتى الموت أيضاً، فيما تمكن والده من إنقاذ شقيقه البالغ من العمر 10 سنوات، قبل أن يتوفى بعد أيام متأثرًا بحروقه، كما أفادت صحيفة “نيويورك تايمز”.
لا مزيد من الخدمات في شمال غزة
تبعت الفيديو المرعب بعد أسبوع، صور تُظهر جنودًا إسرائيليين يطردون فلسطينيين من كتل سكنية نصف مدمرة تحت تهديد السلاح.
وأظهرت لقطات من مسيّرة إسرائيلية نشرتها الإذاعة العامة الإسرائيلية، الفلسطينيين محاصرين ومجبَرين على السير جنوباً من دون أي أمتعة، وسط دمار شامل يشبه مشاهد يوم القيامة.
بعدها أشعل الجنود النار في المباني السكنية، وتباهوا بالتقاط صور “سيلفي” وصور جماعية نشروها على وسائل التواصل الاجتماعي وهم يحتفلون أمام ألسنة اللهب.
العديد من الفلسطينيين الذين رفضوا الامتثال لأوامر الإخلاء، التي غالبًا ما تُذاع عبر طائرات مسيرة تحلق في السماء، قضوا في القصف المدفعي والضربات الجوية الإسرائيلية.
ولم يُستثنَ الفلسطينيون المصابون بجروح خطيرة في المستشفيات والأطباء الذين يحاولون إنقاذ حياتهم من أوامر مغادرة شمال غزة أو مواجهة القتل.
بعد عودتهم إلى ديارهم، أعرب الأطباء الغربيون الذين تطوعوا في غزة عن صدمتهم من عدد الأطفال الذين وصلوا إلى المستشفيات، وقد أصيبوا ليس مرة واحدة فقط، بل مرتين، مباشرة في القلب والرأس.
قال الجراح مارك بيرلموتر لشبكة سي بي إس الإخبارية: “لا يُصاب طفل صغير مرتين بالخطأ من قبل أفضل قناصة العالم”.
فتح القناصة الإسرائيليون والطائرات المسيرة النار عمداً ليس فقط على الأطفال، بل وعلى أولئك الذين يحاولون إنقاذهم.
وأُجبرت العائلات الفلسطينية الهاربة على المرور عبر نقاط تفتيش حيث يفصل الجنود الرجال عن النساء والأطفال.
ثم ألبس الجنود الرجال بدلات بيضاء، وقيدوا أيديهم، وغطوا أعينهم، وحملوهم في أسرّة شاحنات عسكرية لنقلهم ليلاً إلى معسكرات التعذيب الإسرائيلية سيئة السمعة.
في معسكرات الاعتقال مثل سدي تيمان على مدار العام الماضي، جوع الجنود الإسرائيليون المعتقلين الفلسطينيين، وضربوهم واغتصبوهم شرجياً. لقد قيدوا أطراف المعتقلين بإحكام شديد لدرجة أن أطباء السجن اضطروا بانتظام إلى بتر الأطراف.
وعندما خرجت هذه الممارسات إلى النور، بسبب مقاطع الفيديو المسربة وشهادات حراس السجن والمعتقلين المفرج عنهم التي قدمت إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية، سرعان ما تجمع المجتمع الإسرائيلي حول الجنود الساديين، وأعلن أن “كل شيء مشروع”، بما في ذلك إدخال “عصا في مستقيم الشخص” عندما يُتهم الأسير فقط بأنه عضو في حماس.
وخوفًا من مثل هذا المصير ومعرفة أن الجيش الإسرائيلي يخطط لتكرار نكبة عام 1948 وعدم السماح لهم أبدًا بالعودة إلى منازلهم وأراضيهم، رفض العديد من الفلسطينيين في شمال غزة الفرار.
وشاهد أولئك الذين طُردوا قسراً صور لقوات الاحتلال، وهي تشعل النار في بقايا مبانيهم، ويتظاهرون بفخر لالتقاط صور شخصية وصور جماعية، ونشروها على منصات التواصل الاجتماعي باعتبارها “غنائم حرب”.
خطة الجنرالات
الفظائع التي لا توصف التي تحدث الآن في غزة هي جزء من جهد إسرائيلي محسوب بعناية لتنفيذ ما يسمى “خطة الجنرالات” التي تهدف إلى طرد أكبر عدد ممكن من الـ300,000 فلسطيني المتبقين في شمال غزة، مع تجويع أو قتل أي شخص يرفض المغادرة.
عندما قدم الجنرال المتقاعد غيور إيلاند الخطة إلى حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أيلول/سبتمبر، ادعى أنها “ستغير الواقع” على الأرض في غزة. وقال إيلاند أثناء وصفه للخطة: “علينا أن نخبر سكان شمال غزة أن لديهم أسبوعًا واحدًا لإخلاء المنطقة التي ستصبح بعد ذلك منطقة عسكرية، كل شخص فيها سيعتبر هدفاً، والأهم من ذلك، عدم دخول أي إمدادات إلى هذه المنطقة”.
بعد اطلاع نتنياهو على التفاصيل في اجتماع مغلق مع لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست، أعلن أن الخطة “منطقية للغاية”.
بدأت الجهود لتفعيل “خطة الجنرالات” مع إصدار المتحدث العسكري أوامر “إجلاء” للفلسطينيين من المدن والمخيمات عبر محافظة شمال غزة في 7 و10 و12 تشرين الأول/أكتوبر.
بعدها حاصرت إسرائيل شمال غزة، خصوصاً مخيم جباليا، في ما وصفته منظمة العفو الدولية بأنه “تصعيد مرعب في قائمة طويلة من الفظائع التي تُرتكب ضد السكان الذين يعيشون في المنطقة شمال وادي غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023”.
بالإضافة إلى محاصرة جباليا بالدبابات وقصفها بغارات جوية، منعت السلطات الإسرائيلية بسرعة إدخال كل المساعدات الإنسانية، مما أرسل رسالة مفادها أن على الفلسطينيين إما مغادرة شمال غزة أو الموت جوعاً.
تهديدات فارغة من واشنطن
استخدام المجاعة كسلاح حرب أحرج مؤيدي نتنياهو في البيت الأبيض، ممن يدعمون الإبادة الجماعية بحماسة، لكنهم يرغبون أيضاً في تجنب رد فعل عنيف من الناخبين الأميركيين قد يؤدي إلى فقدانهم للسلطة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
في 13 تشرين الأول/أكتوبر، طالب البيت الأبيض نتنياهو في رسالة علنية بزيادة المساعدات إلى غزة، محذراً من أن “استمرار شحنات الأسلحة الهجومية” إلى الجيش الإسرائيلي سيكون في خطر.
وأشار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في الرسالة إلى أن كمية المساعدات المقدمة للفلسطينيين “انخفضت بأكثر من 50 في المئة” منذ الربيع الماضي، وأن المساعدات المقدمة في “أيلول/سبتمبر كانت الأدنى خلال أي شهر في العام الماضي”.
ومع ذلك، كتب بلينكن في الرسالة أن أمام نتنياهو مهلة 30 يوماً للامتثال، مما يضمن عمدًا أن يتمكن رئيس الوزراء الإسرائيلي من تجاهل ذلك من دون عواقب.
وكما أشارت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، فقد “تم إرسال الرسالة قبل أسابيع فقط من الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 تشرين الثاني/نوفمبر”. ونتيجة لذلك، “من شأن انتهاء المهلة في 13 تشرين الثاني/نوفمبر أن يخفف ظاهريًا بعض التداعيات السياسية، نظرًا لأن الرئيس الأميركي جو بايدن سيكون في وضع غير قادر على اتخاذ قرارات مهمة عند تقييم ما إذا كانت إسرائيل قد اتخذت الخطوات اللازمة لضمان الامتثال” للمطلب الأميركي.
بمعنى آخر، ليس مهماً كم من الفلسطينيين سيحرقون أحياء أو يمزّقون أشلاء أو يموتون جوعاً، سيواصل بلينكن لعب دوره والتأكيد على استمرار تزويد اسرائيل بالأسلحة من دون قيود.
وتظهر الفظائع الإسرائيلية في شمال غزة على مدار الأسابيع الماضية، الوحشية التي يمكن أن تصل إليها القيادة الإسرائيلية عندما تُرفع جميع القيود السياسية والعسكرية.
وأشارت “رويترز” في 18 تشرين الأول/أكتوبر إلى أنه “مع اقتراب الانتخابات الأميركية، تستعجل إسرائيل لإلحاق أقصى ضرر بحماس في غزة وحزب الله في لبنان، وتستغل اللحظة لتحديد مناطق عازلة فعلية في محاولة لخلق واقع لا يمكن التراجع عنه قبل أن يتولى رئيس جديد منصبه في كانون الثاني/يناير”.
السباق نحو الحل النهائي في غزة
تحاول إسرائيل الاستفادة إلى الحد الأقصى من فرصة أتيحت لها للمرة الأولى في 7 أكتوبر من العام الماضي.
عندما أطلقت حماس عملية “طوفان الأقصى”، استخدمت القوات الإسرائيلية المروحيات الهجومية والطائرات المسيّرة والدبابات ليس فقط لقتل مقاتلي حماس المهاجمين، ولكن أيضًا لإحراق المئات من مواطنيها الإسرائيليين في المستوطنات (الكيبوتزات) وفي حفل موسيقي في نوفا، وفقاً لتوجيه هنيبعل.
من خلال إلقاء اللوم في هذه المقتلة الرهيبة على حماس وادعاء أنها تعرضت لهجوم شبيه بهجوم 11 أيلول/سبتمبر، خلقت إسرائيل “فرصة فريدة ونادرة لإفراغ قطاع غزة بالكامل”، بحسب “معهد مسغاف للأمن الوطني والاستراتيجية الصهيونية”.
في ورقة سياسية صدرت بعد فترة وجيزة من 7 أكتوبر 2023، كتب المعهد “لا شك في أنه من أجل تنفيذ هذا المخطط، يجب أن تتوافر العديد من الشروط بالتوازي. في الوقت الحالي، هذه الشروط موجودة، ومن غير الواضح متى ستظهر فرصة مماثلة مرة أخرى، إن حدث ذلك على الإطلاق”.
بينما تتكشف المذبحة في غزة، يترقب الناشطون والسياسيون من أحزاب “ليكود” و”الحركة الصهيونية الدينية” و”القوة اليهودية” في إسرائيل اكتمال عملية الطرد الجماعي والتطهير العرقي للفلسطينيين.
إعادة الاستيطان في غزة
على التلال المطلة على غزة، يراقب المستوطنون الإسرائيليون القنابل المتساقطة، في انتظار الفرصة لدخول القطاع وسرقة أراضي الفلسطينيين الذين تمزقهم الصواريخ والمدفعية الأميركية الصنع.
في الوقت نفسه، عقد المشرعون من الأحزاب السياسية الحاكمة في إسرائيل مؤتمراً للتخطيط للاستيطان اليهودي على أنقاض ما يأملون قريباً أن تكون مدن غزة الشاغرة ومخيمات اللاجئين.
أعلنت زعيمة حركة المستوطنين، دانييلا وايس، أمام حشود أن الفلسطينيين في غزة “سيختفون قريباً”. وأضافت: “لدينا دعم سياسي، ولدينا دعم شعبي، ولدينا الخبرة… نخطط لأخذ ما اكتسبناه خلال سنوات الاستيطان في يهودا والسامرة لنفعل الشيء نفسه هنا في غزة”.
وفي حين تحتفل الطبقة السياسية والإعلامية في إسرائيل بتنفيذ “خطة الجنرالات”، تنتظر انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة لتغيير “حدود قطاع غزة” إلى الأبد.
وبينما يواصل نتنياهو إنكار تنفيذ خطة الجنرالات، لم يخجل الصحفي أميت سيغال من قناة 12، وهو من مؤسسته الدعائية، من الاعتراف بالعكس.
“يمكننا أن نستمر في إنكار أن ما يحدث (في شمال غزة) هو تنفيذ لخطة الجنرالات – إفراغ القطاع، وتجويع الإرهابيين، والقضاء عليهم، وأسرهم. في رأيي، هذا ما يحدث هنا”.
هذا ليس مجرد صراع أو حرب إقليمية، بل محاولة متعمدة للمحو والتطهير العرقي تُنَفَّذ في الوقت الحقيقي، بينما يراقب العالم بأسره، باستثناء محور المقاومة في غرب آسيا، بصمت.