زلزال طوفان الأقصى..المناخ الدولي والإقليمي

 (مجلة فتح العدد – 769)

لم يكن حدثًا عاديًا، ذلك العبور العظيم الذي بدأت به معركة طوفان الأقصى في، فجر السبت السابع من أكتوبر لعام 2023م بسلسلة من عمليات اقتحام المجاهدين للمغتصبات والمواقع العسكرية في غلاف غزة براً وبحراً وجواً، وقتل وأسر مئات الجنود والمغتصبين الصهاينة.

بعد عام كامل ورغم الإبادة «الإسرائيلية» الجماعية في قطاع غزة لا يزال هذا اليوم حدثًا سيسطره التاريخ بمداد العزة والفخر، التي خطتها دماء ثلة مؤمنة من المجاهدين الواثقين بنصر الله، العابرين لحدود العجز والتقاعس، الموقنين بنصر الله ومدده وقوته، الذي ما زال وقودًا لصمودٍ أسطوريٍ للمقاومة في غزة وكل شبرٍ في فلسطين، يسعد أبناء الأمّة ويزيدهم فخرًا، ويقهر العدوّ المتغطرس ويزيده قهرًا.

عندما اتخذت المقاومة الفلسطينية قرار تنفيذ عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أوكتوبر 2023 لم تكن بعيدة عن فهم المناخ السياسي العالمي والإقليمي وإمكانية خلق وقائع صلبة تخدم مستقبل «القضية الفلسطينية»  في ظل انصراف أميركي لتنظيم الأولويات من المواجهة مع الصين بحسب ورقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي أعلنتها الولايات المتحدة. وكذلك العمل على احتواء روسيا وإيران وفق ظروف المواجهة مع كل من الدولتين. وفي وثيقة سرية وتقدير موقف وصل إلى قيادة غزة في حركة «حماس» بعد اندلاع المواجهة بين الغرب الجماعي وروسيا في أوكرانيا، كان ثمة فقرة كاملة عن المناخ الدولي العام ولحظة الانهماك الغربي والأميركي بالحرب مع موسكو. وخلص تقدير الموقف إلى أن الظروف في العالم وحالة الانقسام والترهل داخل «إسرائيل» تسمح بعملية كبيرة أسماها كاتب التقدير «إمكانية تحويل الموقف وكسر حلقة المراوحة وتشديد الحصار على الفلسطينيين في غزة والضفة والقدس من قبل حكومة يمينية متطرفة (الصهيونية الدينية) أعلنت في برنامجها وأفكار رئيسها ووزرائه تستند إلى فكرة زيادة وزيرة الاستيطان الإحلالي والعمل على إنهاء القضية الفلسطينية وصولا إلى الإجهاز على عناوينها الحيوية كقضية اللاجئين والدولة والاستقلال والقدس كعاصمة والأرض كشاهد على الحق الفلسطيني».

وفي الشق الإقليمي من المشهد كانت واشنطن تعمل مع دول عربية وخليجية من أجل الاستفادة من حالة التبريد مع إيران بعد اتفاق «بكين» وإعادة إطلاق مسار «الاتفاقات الإبراهيمية» و«السلام» بغية الوصول إلى اتفاق بين السعودية و«إسرائيل» وترويج هذا المسار بمنظومة إقليمية عربية إسلامية «إسرائيلية» تشكل ظهيراً حامياً للمصالح الأميركية في غرب آسيا، وعلى رأسها أمن «إسرائيل» واعتبارها كيانا طبيعيا في المنطقة.

لقد اعتبر الفلسطينيون بأن انخراط السعودية في عملية التطبيع مع «إسرائيل» خطراً داهماً على مستقبل القضية والشعب الفلسطيني. وقدروا بأن ذهاب الرياض في هذا الاتجاه دون تحقيق أي مكاسب للشعب الفلسطيني من شأنه فتح الباب أمام حكومة نتنياهو المتطرفة للشروع في تطبيق برنامج «الحل النهائي» الذي ينتهي بأسرلة وتهويد القدس والضفة وزيادة الحصار على غزة بغية دفع الناس هناك للهجرة الطوعية وما يترتب على هذا المسار من اندثار وانمحاء للقضية الفلسطينية.

ليس هذا وحسب، بل اعتبرت المقاومة الفلسطينية بأن انخراط السعودية في مسار التطبيع سيسقط الحرج من هذه الخطوة، ويدفع بقوى عربية وإسلامية نحو إنهاء القطيعة مع «تل أبيب» وبذلك تخسر القضية الفلسطينية امتداداتها العربية والإسلامية ويواجه الفلسطينيون واقعا جيوسياسيا قاتلا تستفيد منه حكومة الثلاثي نتنياهو سموتريتش بن غفير، وتبادر إلى تسريع وتيرة الإجهاز على ما تبقى من فلسطين التاريخية.

في هذا المناخ الدولي والإقليمي جاءت عملية «طوفان الأقصى» كمحاولة أخيرة لمنع هذه الخسارة وقلب الطاولة وافتتاح أفق مختلف عن السياق الإقليمي الدولي المنذر بتدفيع الفلسطينيين مجدداً ثمن التحالفات العربية «الإسرائيلية» والصراع الدولي المتجدّد على النفوذ والموارد والسعي الأميركي لقطع الطريق بوجه التمدد الصيني – الروسي – الإيراني نحو الخليج والعراق وسوريا ولبنان، ومن ثم قطع الطريق على الطموح الصيني المتمثل بمشروع طريق الحرير وخطوط التجارة والغاز براً وبحراً عبر سلاسل التوريد، والتي تحوّل بكين إلى قبلة اقتصادية مربوطة بالعالم بشبكة مواصلات واتفاقات مع دول الجوار الإقليمي وصولاً إلى أوروبا والخليج وغرب آسيا وشمال أفريقيا وغربها.

ما بعد الطوفان

من الواضح بأن الحرب «الإسرائيلية» على غزة ليست رداً متكافئاً على عملية «طوفان الأقصى». هي قرار أميركي تنفذه «إسرائيل»، وتستفيد منه حكومة بنيامين نتنياهو في سياق مشروعها لتجديد النكبة ومفاعيلها على الفلسطينيين. تجريف غزة وتدميرها والعمل على تهجير شعبها وصولاً لإعادة استيطانها، هدف «إسرائيلي» بالتأكيد، لكنه في صلب الإستراتيجية الأميركية وحرب الجغرافيا السياسية والاقتصادية التي تخوضها واشنطن بوجه القوى الصاعدة من أوكرانيا والبحر الأسود إلى البحر الأحمر والسودان (مصر محاطة بالأزمات) إلى غرب آسيا والبحر المتوسط ولبنان وغزة تحديداً بما تمثله من رمزيات سياسية وعقد وتحديات أمام التكتلات والأحلاف التي تعمل على تأسيسها واشنطن في إطار هندسة صراعها مع الصين وروسيا وإيران ومحور المقاومة في المنطقة والعمل على تأمين قرن جديد من الهيمنة الأميركية – الغربية على العالم.

 

إن هدف «إسرائيل» المتمثّل في تدمير المقاومة الفلسطينية وتشريد سكان غزة متشابك مع طموحات واشنطن الجيوسياسية الأكبر، والتي سرعان ما كُشِف عنها بعد حملة الاغتيالات الإسرائيلية ضد قادة المقاومة اللبنانية في أيلول/سبتمبر: إعادة تشكيل غرب آسيا.

 

عن علي محمد

مدير التحرير

شاهد أيضاً

مجزرة صبرا وشاتيلا والإبادة بغزة.. الدم الفلسطيني المستباح منذ عشرات السنين

  تعيد مشاهد القتل والإجرام في قطاع غزة المنكوب، للأذهان مذبحة مخيم صبرا وشاتيلا، مع …

آخر الأخبار