حرب الاستنزاف التي سيخسرها الكيان الصهيوني مجدداً

السيد شبل

يقول الخبير العسكري الصيني، المُتوفَّى في القرن الخامس قبل الميلاد، صن تزو، إنّ حروب الاستنزاف ليست أفضل طريقة لتحقيق الفوز، ففيها يعتقد كِل الطرفين أنه قادر على نيل الانتصار، لكن ما يحدث، في الغالب، أن الأمور تنتهي بامتلاك كِلا الجانبين موارد أقل، وتكون المحصلة «صفراً» لجميع الأطراف المتصارعة. لكنّ هذا الرأي الشائع في العلوم العسكرية حتى الساعة، ينطبق على الشعوب والأمم التي لديها تاريخ طبيعي ووجود مستقر وقَدْر من التكافؤ فيما يتعلق بالقوى البشرية والإرادة، وجميع ما سبق لا ينطبق على وضع “إسرائيل” في الصراع الدائر اليوم. طوال عامٍ وأكثر، لم ينجح “جيش” الاحتلال في تحقيق الانتصار على فصائل المقاومة داخل قطاع غزة، على رغم التورّط في هذا المستوى الفاضح من المجازر.

ومع الوقت تتصاعد الأصوات في “تل أبيب”، التي تتهم بنيامين نتنياهو بأنه يجرّ “المجتمع الإسرائيلي” خلفه إلى مغامرة غير ذات جدوى، عسكرياً واقتصادياً، ويتورط في حرب استنزاف طويلة، ستؤدي في نهاية المطاف إلى “انهيار اسرائيل وليس حماس”، بحسب وصف الجنرال الإسرائيلي المتقاعد، إسحاق بريك، بناءً على اجتماعه بنتنياهو ست مرات خلال الحرب التي أطلقت عليها حكومة الاحتلال اسم “السيوف الحديدية”.

 

لا يوجد سقف لرعونة اليمين المتطرف داخل “إسرائيل”، وإلا لَما كان “جيش” الاحتلال قرر توسيع رقعة القتال إلى حدّ الصدام المباشر مع المقاومة اللبنانية واغتيال أمينها العام السيّد حسن نصر الله، والشروع في الاجتياح البري لجنوبي لبنان، مع التلويح المستمر باقتراب موعد توجيه “ضربة قاصمة” إلى إيران، مع العلم بأن محور المقاومة بأكمله لم ينخرط في القتال إلا بهدف تخفيف الضغط عن قطاع غزة، ولإرغام نتنياهو على وقف عدوانه على الأبرياء الفلسطينيين، وهو مطلب دولي بالمناسبة، إذ لا توجد عاصمة في العالم إلا وتطالب بوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

 

ما يحدث اليوم بين ساحات المقاومة والعدو الإسرائيلي هو، ببساطة، حرب استنزاف من النوع التقليدي والمكلّف في الآن ذاته، تجري في صورتها الأبهى في الميدان اللبناني، وفيها سيحاول كل جانب إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالجانب الآخر، سواء فيما يتعلق بعدد المقاتلين الذين سيسقطون بين قتيلٍ وجريح، أو فيما يتعلّق بالمعدات العسكرية التي سيتم تدميرها.

 

وهناك شق آخر يتمركز حول الجانب المعنوي، وذلك تحديداً ما استهدفه وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، عندما وجّه طائراته المحمّلة بالقنابل الأميركية لاغتيال السيّد حسن في السابع والعشرين من الشهر الفائت، لكن عمليات المقاومة خلال الأسابيع الماضية ربما عكست الآية.

 

لدى العرب تجربة في هذا النوع من الحروب، خلال شهور وأعوام ما بعد حزيران/يونيو 1967، فبعد أن صاغت قمة جامعة الدول العربية، والتي عُقدت في الخرطوم، سياسة “اللاءات الثلاث “، التي تحظر الصلح والاعتراف والتفاوض مع “إسرائيل”، أعلن الزعيم المصري جمال عبد الناصر أن المبادرة العسكرية هي التي ستجبر العدو على إزالة آثار العدوان، ثمّ استؤنفت الأعمال القتالية على طول قناة السويس.

 

اتخذت في البداية شكل مبارزات مدفعية محدودة وتوغلات في سيناء، ومع حلول عام 1969، وسّع الجيش المصري عملياته، وتم رسمياً إعلان انطلاق حرب الاستنزاف في آذار/مارس، والتي تميزت بالقصف واسع النطاق على طول قناة السويس، والحرب الجوية المكثفة وغارات الكوماندوس، وانتهت مع تشييد حائط الصواريخ شرقي القناة، إذ تم بناء أكبر نظام مضاد للطائرات تم تنفيذه حتى الآن في تلك المرحلة من التاريخ.

 

لم تستنزف الحرب دماء الإسرائيليين فقط (الخسائر تجاوزت 1400 قتيل، في بعض التقديرات)، بل حطّمت ما هو أهم: معنوياتهم، إذ تأكد أن العرب عازمون على مواصلة القتال على رغم هزيمة الأيام الستة، وأنّ “تل أبيب” لن تنال الاعتراف الإقليمي، و”شعبها” لن يحصل على الأمان.

 

بهذا السياق، يرى الباحث الإسرائيلي جدعون ريميز أن الهزيمة في حرب الأيام الألف كانت من نصيب “إسرائيل”، وأن “جيش” الاحتلال تكبّد خسائر كبيرة، وهو ما أرغم القيادة الإسرائيلية، في نهاية المطاف، على قبول وقف إطلاق النار، عبر التجاوب مع مبادرة وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز، والتي دخلت حيّز التنفيذ في آب/أغسطس 1970، لأن الدفاعات الجوية السوفياتية، والتي استخدمها المصريون، كانت تُسقط طائرات الفانتوم الأميركية بمعدل ثابت.

 

ما الذي خسرته “إسرائيل”، وأين يكمُن ضعفها؟ على المستوى الاستراتيجي، تكبّد الكيان خسائر فادحة، وربما هي المرة الأولى في تاريخ “إسرائيل” القصير، تدور الحرب داخل “حدودها”، والصواريخ التي تنطلق من ساحات المقاومة باتت تطال كل بقعة في الأراضي المحتلة، ولم يعد ثمة مكان آمن يمكن أن يلجأ إليه المستوطنون، أو يستقر فيه نشاط اقتصادي، أو تزدهر داخله الأنشطة اليومية المعتادة. ولولا الدعم الأميركي المستمر – وآخر صوره منظومة صواريخ “ثاد” الدفاعية – لما استطاعت “إسرائيل” مواصلة عدوانها وحماقاتها. خلال الفقرات التالية، يمكن رصد صور الخسائر التي كابدتها “إسرائيل” خلال العام المنصرم حتى اليوم: أولاً: يقوم “جيش” الاحتلال باستدعاء جنود الاحتياط، مراراً وتكراراً، بحكم التحديات العسكرية المتنامية، والتي يوسّع نتنياهو رقعتها بوتيرة ثابتة.

 

هؤلاء الجنود باتوا يعانون الإرهاق الشديد، وبعضهم يخرج عبر وسائل الإعلام ليعبر عن معارضته سياسات الحكومة. في الوقت ذاته، يضطر القادة الإسرائيليون إلى مواصلة عمليات الاستدعاء نتيجة تقليص ست فرق خلال العقدين الماضيين، وهو ما يُنذر بخطر فقدان جيش الاحتياط خلال فترة قصيرة.

 

هذا، في حد ذاته، أحد أهم مكامن الضعف لدى “إسرائيل”، وهو ما يتعلق بالقوى البشرية المؤهلة لخوض المعارك، وهي مسألة تثير قلق جنرالات “الجيش الإسرائيلي”، الأمر الذي دفعهم إلى حشد المرتزقة للقيام بالمهمّات العسكرية، إذ قامت حكومة الاحتلال باستغلال الوضع غير القانوني لطالبي اللجوء الأفارقة لتجنيدهم ودفعهم إلى المشاركة في الحرب، في مقابل وعود بتسوية أوضاعهم، ومنحهم الإقامة القانونية.

 

وعلى رغم أن “إسرائيل” لم تقرّ رسمياً بوجود مرتزقة في الحرب، فإنها لا تنفي تجنيد بعض اللاجئين. وفي المقلب الآخر تُجري عمليات واسعة لتجنيد عدد من المرتزقة الأوروبيين لخوض المعارك الصعبة داخل قطاع غزة. يعيش في “إسرائيل” نحو 30 ألف طالب لجوء أفريقي، معظمهم من الشبان، وأغلبيتهم فرّوا من أريتريا والسودان وإثيوبيا. أمّا المرتزقة الذين قدموا من أوروبا، فلديهم قدر أعلى من الاحترافية، ويتقاضون رواتب تصل إلى 3900 يورو في الأسبوع، وغالباً يتم جلبهم عبر شركات خاصة، مثل: ريفن، غلوبال سي أس تي، وبلاك ووتر الأميركية، ويحمل بعضهم الجنسية الأوكرانية، وحاربوا ضد الجيش الروسي خلال العامين الماضيين.

 

عندما تُعقد مقارنة بين هؤلاء المرتزقة، الذين يحاربون بهدف المال أو تقنين الأوضاع، وبين شبان المقاومة، الذين يبادرون إلى التطوّع في ساحات المقاومة، آملين تحقيق النصر أو نيل الشهادة، يظهر على الفور الجبهة التي سيبتسم لها الحظ في نهاية الحرب.

 

وكانت فصائل المقاومة العراقية أعلنت، خلال شهر أيلول/سبتمبر الفائت، على لسان الأمين العام لكتائب “سيد الشهداء”، أبي آلاء الولائي، استعدادها لإرسال 100 ألف مقاتل من العراق إلى لبنان، كما تجري مبادرات من النوع ذاته في طهران.

 

ثانياً: حرب الاستنزاف المستمرة منذ أكثر من عام، والتي صعدت إلى مستوى أعلى بعد اندلاع الحرب في الجبهة اللبنانية، ستؤدي حتماً إلى انهيار الاقتصاد الإسرائيلي. واليوم، تعاني إسرائيل عجزاً يصل إلى 8.5 ٪، في مقابل 4 ٪ فقط خلال عام 2023، كما ارتفعت معدلات الكساد في سوق العقار، فعلى مدار عام تم شراء نحو 1,200 شقة، وهو ما يمثل نصف العدد الذي تم شراؤه في عام 2021.

 

وأدى ارتفاع عجز الميزانية وحالة عدم اليقين وتوسّع الصراع إلى تخفيض تصنيف “إسرائيل” خمس مرات في أقل من عام، وهو ما رفع تكلفة التأمين على الديون السيادية الإسرائيلية ضد التخلف عن السداد إلى أعلى مستوياتها. ثالثاً: بمرور الوقت، ترتفع معدلات الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي، إذ تتأجج الكراهية بين شرائح “الشعب”، وتبدو أحياناً كأنها قد تشعل حرباً أهلية.

 

فعلى مدار عام، استطاع نتنياهو الإفلات من الضغوط الدولية المطالبة بوقف الحرب، لكن في المقابل تصاعدت الاحتجاجات داخل “اسرائيل”، وهو ما يكشف تصدّع الإجماع على الحرب، ويكرّس حالة الانشطار داخل المجتمع، على رغم تركّزها بين الفئات الليبرالية والعلمانية، إلى جانب الخلافات داخل المؤسسة العسكرية ذاتها، فيما يتعلق بأمور مثل وجود القوات الإسرائيلية في محور فيلاديلفيا/صلاح الدين، أو المفاوضات مع حركة حماس بخصوص ملف الأسرى.

 

رابعاً: بسبب جرائمها داخل قطاع غزة، ورفضها كل القرارات الدولية والنداءات الأممية، تحولت “إسرائيل” إلى “دولةٍ” منبوذةٍ ومعزولةٍ، حتى إن أصدقاءها في العواصم الأوروبية باتوا يديرون ظهورهم لها. واليوم يتصاعد الرفض بسبب الهجمات الإسرائيلية المتواصلة على مواقع قوات اليونيفيل في جنوبي لبنان، وفق الشكل الذي يصب مزيداً من الزيت على النيران المشتعلة أصلاً مع الأمم المتحدة، والتي دعت الشهر الماضي إلى تفكيك المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والتوقف عن عمليات الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة.

 

خامساً: جرّت “تل أبيب” واشنطن خلفها إلى معارك الشرق الأوسط مجدداً. وعلى رغم أن إدارة بايدن انتهجت سلسلةً من التدابير لمنع نشوب حربٍ إقليمية، بدءاً بالدبلوماسية وتعزيز الوجود العسكري، مروراً باستخدام “القوة العسكرية المميتة”، فإن إصرار الحكومة اليمينية داخل “إسرائيل” على استفزاز المجتمعات العربية والإسلامية تسبب بإشعال المنطقة ككل، ودفع إيران إلى توجيه صواريخها بصورة مباشرة نحو الأراضي المحتلة مرتين، الأولى في نيسان/أبريل، والثانية في مطلع الشهر الجاري. هذا بدوره أجبر واشنطن على الانخراط بدرجة أكبر في الصراع، وإرسال مزيد من الطائرات المقاتلة والمعدات العسكرية.

 

ويجري ذلك في ظل ظروف صعبة تعيشها الإدارة الأميركية، فثمة انتخابات على الأبواب، وأجواء صراع سياسي داخلي يوشك أن ينفلت إلى قتالٍ مسلح، إلى جانب ما تفرضه بكين وموسكو من تحدياتٍ اقتصادية وعسكرية.

 

وجميع ما سبق دفع عدداً من المواطنين الأميركيين إلى التعبير عن رفضهم استمرار الدعم المالي الممنوح لـ “اسرائيل”، وخصوصاً بعد أن عجزت الحكومة عن علاج الآثار السلبية الناجمة عن إعصار ميلتون الذي فتك بولاية فلوريدا الأميركية، وتسبب بسقوط قتلى وأضرار وانقطاع واسع للكهرباء.

 

من المؤكد أن صمود “إسرائيل” في مواجهة حرب الاستنزاف التي تورطت فيها، بات محل شك. أما الدعم الأميركي فغالباً ما سيتراجع أو سيتم تقديمه على مضض، كما أن الضغوط الداخلية على حكومة نتنياهو ستتنامى، وربما تشهد الأيام المقبلة انقسامات أوسع داخل المجتمع الإسرائيلي، وخصوصاً مع الانهيار الوشيك للاقتصاد.

 

كل ما سبق يصب في مصلحة محور المقاومة، الذي استرد عافيته خلال الأسابيع الماضية، ونجحت صواريخه في الوصول إلى أماكن لم تكن قد وصلت إليها بعد، محدثةً خسائر غير مسبوقة.. والقادم أفضل.

About علي محمد

مدير التحرير

Check Also

من صحافة العدو “يديعوت أحرونوت”: زعامة نتنياهو أدت إلى تآكل أمن “إسرائيل”

  أدّت زعامة بنيامين نتنياهو إلى تآكل أمن “إسرائيل” وتعميق الانقسامات الداخلية وتمكين أعدائها. وفي …

آخر الأخبار