صحيح أن إسرائيل تمكّنت من اغتيال الأمين العام لحزب الله وقادة عسكريين كبار فيه، ولكن منظومة “القيادة والسيطرة” لدى المقاومة لا تزال متماسكة، والدليل هو استمرار قصف المستعمرات الإسرائيلية من جنوب لبنان.
خليل نصر الله
عملت “إسرائيل” لعقود من الزمن على النيل من قادة المقاومة، ليس لدى حزب الله فحسب، بل مختلف قوى المقاومة في المنطقة
في خطابه الأخير تحدث الشهيد السيد حسن نصرالله بلغة المستقبل، مطمئنا عن حال المقاومة “ما حصل لن يمس لا بنيتنا ولا عزمنا ولا نظام القيادة والسيطرة”، ولعل النقطة الأبرز التي ينتظر وينظر إليها المؤيدون أو الأعداء، بعد اغتيال الكيان الإسرائيلي السيد نصرالله وأحد معاونيه وعدد من القادة المؤثرين قبله، هي بنية المقاومة والقيادة والسيطرة لديها ومقدراتها.
مضت أربعة أيام على الضربة التي تعرضت لها المقاومة في ضاحية بيروت الجنوبية بعد سلسلة ضربات طالت قادة من مختلف المراتب، والعين على الميدان، والسؤال ماذا ستفعل المقاومة في مواجهة العدوان الذي يطال كامل لبنان؟ والمقصود إدارة المعركة، خصوصا مع الحملة الإعلامية والسياسية الخارجية التي تعمل على توهين الناس وإفقادهم الأمل بعد استشهاد السيد، ويصبح ما جرى “ضربة قاضية” لحزب الله، لكن ماذا في الوقائع؟
لا يمكن التقليل من حجم تأثير عملية اغتيال نصرالله وعدد من القادة على المقاومة، فهم جيل بدأ المواجهة منذ أن بزغ للمقاومة فجر في لبنان، ومن ثم هو ومن معه يملكون من القدرة والخبرة على فهم الإسرائيليين وتوجهاتهم ومدى عدوانيتهم وتربصهم.
عملت “إسرائيل” لعقود من الزمن على النيل من قادة المقاومة، ليس لدى حزب الله فحسب، بل مختلف قوى المقاومة في المنطقة، وعلى رأسها فلسطين، ونجحت في تصفية العديد منهم والشواهد كثيرة، لكن أمام ذلك استمرت المقاومة بل وتصاعدت. إلا أن المرحلة التي نمر فيها تعد الأدق والأكثر حساسية في تاريخ الصراع بين المقاومة والكيان الإسرائيلي نتيجة لمجمل ظروف ومتغيرات وتبدلات إقليمية ودولية، وبعد عقد ونيف من الحرب الكونية على سوريا، والتي فشلوا من خلالها في ضرب محور المقاومة من خلالها عبر إغراقه فيه، لتأتي الحرب الآن بين القوى المنتصرة والكيان الإسرائيلي على نحو مباشر، وهو الذي ارتاح على مدى عقدين من الزمن.
عام 2006، وبعد حرب دامت 33 يوما، خرج الإسرائيليون بخلاصات تفيد بأن نظام القيادة والسيطرة لدى حزب الله كان أحد أهم عناصر “الفشل” أو “الإخفاق” في تحقيق أهداف تلك الحرب، كما ذكر تقرير لجنة التحقيق “فينوغراد”، الذي حمل الاستخبارات أيضا مسؤولية الفشل.
منذ ذلك الوقت، بدأت “إسرائيل” تركيز جهد كبير تجاه منظومة القيادة والسيطرة لدى المقاومة، قبل مقدراتها أو أي شيء آخر، لاعتبار أن بقاء هذه القدرة لدى الحزب قد تجلى لإسرائيل هزيمة جديدة في حال وقوع أي حرب. في هذا السياق ومع بدء حكومة نتنياهو التوجه شمالا، وجه جيش العدو سلسلة ضربات، بدءا من اغتيال فؤاد شكر، ثم بعد وقت وجيز هجوم “البيجر” ونظام الاتصالات وصولا إلى اغتيال قائد قوة الرضوان وعدد من القادة الميدانيين، وصولا إلى الهجوم الواسع الذي قال العدو إنه استهدف مخازن أسلحة، ثم الضربة الكبيرة التي تمثلت باغتيال نصر الله.
هدف العدو من خلال ذلك إلى إحداث خلل كبير في نظام القيادة والسيطرة كونه العامل الأساس في أي معركة أو حرب مهما بلغت، معتقدا أن ذلك سيقيه الضربات، ويدفع حزب الله نحو وقف جبهة الإسناد اللبنانية؛ ومن ثم توقيع اتفاق استسلام يحقق متطلبات أمنية إسرائيلية تعطيها يدا عليا في الردع، وتعيد لها حرية العمل حيث تريد وساعة تريد.
هل اتخذت المقاومة تدابير مسبقة؟
في مقابل فهم المقاومة لطبيعة تفكير المنظومة الأمنية الإسرائيلية، واستنادا إلى العبر المستخلصة من تقرير فينوغراد وعدوان تموز عام 2006، وقراءتها لدقة ما ورد، وضعت بدورها ما يمنع المس بنظام القيادة والسيطرة لديها، رغم معرفتها بقدرات العدو الكبيرة في هذا الصدد، ومع علمها بأن اغتيال أي شخصية هو أمر وارد، وقد حصل ذلك مع اغتيال الشهيد عماد مغنية عام 2008 ثم الشهيد حسان اللقيس المعني بسلاح المسيرات عام 2013، لذلك عملت، كما هو واضح، على هيكلة نفسها بما لا يحدث فراغا في البنية السياسية والعسكرية والأمنية لديها، ومن ثم المحافظة على القيادة والسيطرة في إدارة المعركة، بالمناسبة غير المحصورة فيما يجري الآن، فالمعركة الأمنية لم تتوقف يوما منذ إعلان حزب الله عن تشكليها في ثمانينيات القرن الماضي.
وعليه، من المهم التأكيد على أن حزب الله وضع في عين الاعتبار مجملا ما يتعرض له اليوم، إنما من خلال قرب المسافة الزمنية بين الضربة والأخرى، أدى ذلك إلى نوع من التريث، لاعتبار أن هم قيادة الحزب النبت نحو ترتيب الفراغ بعد كل ضربة، قبل أن تأتي أثقلها التي تمثلت باستهداف السيد نصرالله.
منظومة القيادة والسيطرة بعد استشهاد السيد
فور تأكيد استشهاد نصرالله وأحد معاونيه الشهيد علي كركي ساد جو عارم من القلق لدى الناس أولا، خصوصا مع النشوة الإسرائيلية التي عبر عنها بنيامين نتنياهو، حول مستقبل حزب الله ككل، وهو قلق مشروع كنتيجة لارتباط الجمهور بالقائد.
لكن واقعا، ومن الطبيعي، أن صمت الحزب قليل، والهدف ترتيب البيت سريعا، وهو ما بدأت ملامحه مع بيان نعي نصرالله الذي حمل عبارتين ذات دلالة هامة تعبر عن أن المنظومة ما زالت تعمل، عند الإشارة إلى أن المقاومة ستواصل إسناد غزة حتى وقف العدوان وكذلك ومواصلة الدفاع عن لبنان.
هاتان العبارتان تعكسان قرارا قياديا، وليس تعبيرا فرديا لمن خط حروف بيان النعي، وهي كانت أولى الإشارات على أن ترميم آثار الضربات بدأ سريعا.
كذلك، مسار الأيام الثلاثة الماضية لجهة مواصلة المقاومة عملياتها بوتيرة تصاعدية، وإطلاق كم هائل من الصواريخ وصل في أحد الأيام إلى 400، وعمليات متنوعة ومدروسة تضمنت إطلاق صواريخ باليستية، في مشهد يعطي دلالة عن القيادة والسيطرة وكذلك القدرة ما زالا بخير.
لكن الدلالة الأبرز، أتت في تصريح مقتضب، وهو الأول لمسؤول رفيع المستوى بعد استشهاد نصرالله، للشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام، والذي تحدث فيه بجلاء عن أن المقاومة بخير، وأن نظام القيادة والسيطرة لديها يعمل، وهي ماضية وفق الخطط الموضوعة مسبقا، في الدفاع عن لبنان وصد العدوان، مع إضافة تحمل دلالات كبيرة، وتعد ردا على ما وضعه نتنياهو كهدف أول وهو “تغيير الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط” بقول الشيخ قاسم بأن المقاومة ستدافع عن وحدة الساحات، وهو ما يعطي صورة بأن التحدي بات ضمن مستوى استراتيجي.
أمام المشهد ومع استمرار العدوان، من الواضح أن تريث المقاومة لم يكن من باب الضعف أو التراجع، إنما من باب استيعاب الضربات وترتيب البيت سريعا كمقدمة لكلمة في الميدان، تعديل موازين القوى مجددا، ما يعني توجيه ضربة للمخطط الإسرائيلي – الأميركي الذي ينفذ والهادف إلى ضرب المقاومات أو إضعافها، وتفكيك الساحات ونقل المنطقة إلى عصر إسرائيلي جديد عنوانه “التطبيع” يكون لإسرائيل فيه اليد العليا والكلمة الفصل.
إن المقاومة، ومع استشهاد أمينها العام، وكما هو واضح هي أكثر عزما وقدرة على إفشال أهداف العدوان بما يحقق مستقبل شعوب المنطقة.
وكما قبل استشهاد السيد نصرالله، هو كما بعده: الكلمة الفصل في الميدان.