قد تؤدي نتائج الانتخابات البرلمانية الأردنية إلى زعزعة استقرار النظام الملكي، وقد تكشف عن مقاومة متزايدة للسلام الهش مع إسرائيل والتأثير المتزايد الذي قد تمارسه هذه القوى على الاتجاه المستقبلي للمملكة.
خليل حرب
صعود الإسلاميين، المقربين من تيار جماعة الإخوان المسلمين، يطرح الكثير من التساؤلات، وله دلالات حتى خارج صناديق الاقتراع
بخلاف الأرقام المعلنة حول نتائج الانتخابات البرلمانية في الأردن، برز مشهدان يقدّمان خلاصات حقيقية لما يجري هناك.
الأسير الأردني المحرر أحمد الدقامسة الذي قتل 7 إسرائيليات عام 1997 بالقرب من الحدود مع كيان الاحتلال، وهو يشارك في عزاء ماهر الجازي، منفذ عملية معبر الكرامة (اللنبي) مؤخرا، ومشهد أنصار جبهة العمل الإسلامي، الفائز الأكبر في الانتخابات، وهم يحتفلون بانتصارهم الانتخابي على وقع هتافات التحية للناطق العسكري باسم حركة حماس في غزة، “يا شرفنا العالي يا أبوعبيدة… يا شرفنا العالي… غالي والله غالي كلنا بنحبك”.
ما حملته نتائج الانتخابات الأردنية ليست طبيعية بتاتا. وهواجس الحكم الأردني من مفاعيل حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية المحتلتين، يبدو وكأنها في محلها. صعود الإسلاميين، المقربين من تيار جماعة الإخوان المسلمين، يطرح الكثير من التساؤلات، وله دلالات حتى خارج صناديق الاقتراع.
ماثلا في أذهان الأردنيين منذ العام 2016، مشهد إغلاق مقرات جماعة الإخوان المسلمين بالشمع الأحمر، في عمان والرمثا وإربد وجرش والمفرق والكرك ومادبا. ولهذا، فإن صعود ما يوصف بأنه “الجناح السياسي” لهم، من خلال جبهة العمل الإسلامي، لاحتلال 31 مقعدا في مجلس النواب الآن (22% من أعضاء المجلس) وتحولهم إلى أكبر كتلة برلمانية – وإن كانت لا تمثل الأغلبية المسيطرة – يزخر بالمؤشرات التي لا يستهان بها.
يقول مصدر أردني يصف نفسه بأنه مستقل، إن “هواجس مرحلة الربيع العربي تلك، مختلفة عن هواجس اليوم”.
ويوضح المصدر ، إن النظام الملكي الأردني يدرك أن جماعة الإخوان المسلمين لديها ترخيص للعمل منذ أيام الملك الأردني الأول عبدالله في العام 1946، إلا أن سنوات الربيع العربي، فرضت مخاطر ومخاوف على الاستقرار الداخلي، خصوصا في ظل ما كان يجري وقتها في مصر وسوريا وليبيا، حيث شكّل الإخوان المسلمين رأس حربة الحراك والتظاهرات وحتى أعمال العنف، ولهذا اعتبر الملك الأردني عبدالله الثاني وقتها أن الفرصة سانحة لقص أجنحة الجماعة ولجمها.
عندما وافقت الحكومة الأردنية في بداية العام 2022 على قوانين جديدة للنظام الانتخابي، يفترض أن تعزز القدرة الهشة للأحزاب الأردنية على الانخراط في العمل البرلماني، وتقوية تمثيلها في مجلس النواب، لم يكن “طوفان الأقصى” قد انفجر.
ويقول محلل أردني إن “النظام الأردني كان يأمل بإدخال عمليات تجميل على اللعبة السياسية-البرلمانية، وكان يراهن على بقاء مجلس النواب تحت هيمنته بتعزيز حصة العشائر، المعروفة تقليديا بولائها للعرش، وحصة النواب المعتدلين والوسطيين، القادرين على التناغم ومسايرة تطلعات النظام وسياساته”.
وكما يقول المثل الشائع، فإن حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر، والحكومة الأردنية التي رفعت عدد مقاعد البرلمان من 130 إلى 138، مخصصة منها 41 مقعدا لكوتا القوائم الحزبية، كانت تبني آمالها على إبقاء هيمنتها، بما يطوّق التمثيل “الإخواني” عند حدوده الدنيا.
لكن صناديق الاقتراع خرجت بمفاجأة، يقول العديد من المراقبين، إنها لم تكن في الحسبان. هذا أكبر انتصار انتخابي يحققه الإسلاميون منذ عودة الحياة إلى العمل البرلماني في العام 1989، وأن يحصدوا 31 مقعدا، يعني أنهم ضاعفوا تمثيلهم 3 مرات مقارنة بالبرلمان السابق.
ويقول مصدر عربي مراقب للشؤون الأردنية إن هذا التقدم “الإخواني” الكبير، يمثل مفارقة غريبة، ذلك أن النظام الانتخابي تمت هندسته ليكون أكثر تمثيلا لمناطق العشائر والتي كثافتها السكانية محدودة، مقارنة بالمدن التي تتمتع بكثافة سكانية كبيرة، ومن المعروف أن ساكنيها عموما هم من الأردنيين من الأصول الفلسطينية الأكثر حيوية ونشاطا في العمل السياسي والأكثر قربا إلى التيار الإسلامي.
وإلى جانب قدرة الإسلاميين على الاستفادة من الدعم التقليدي لهم داخل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، فإنه من المفارقات الإضافية اللافتة أن التيار الإسلامي تمكن من التغلغل في دوائر انتخابية كانت شبه مقفلة أمامه، ومحسوبة على العشائر.
وتتوالى المفاجآت فصولا. في الدائرة الثانية في عمان، فاز مرشحون من جبهة العمل الإسلامي بعدة مقاعد إلى جانب مرشحين من قوائم حزبية، لكن اللافت أن مقعدا مخصصا للمسيحيين، فاز به مرشح مسيحي من قائمة الجبهة، هو جهاد مدانات، بينما ذهب المقعد المخصص للمرأة في هذه الدائرة أيضا إلى مرشحة على قائمة الجبهة هي السيدة راكين أبو هنية.
وفي خطوة لا تخلو من الدلالات السياسية المهمة، قام وفد يمثل جبهة العمل الإسلامي قبل الإنتخابات ، بزيارة خيمة عزاء الفدائي ماهر الجازي الذي قتل 3 من عناصر أمن الاحتلال الإسرائيلي عند معبر الكرامة قبل نحو 10 أيام. ويقول المصدر العربي إن زيارة كهذه من جانب قيادات التيار الإسلامي إلى عشيرة الحويطات التي ينتمي إليها الشهيد الجازي، لها أثرها ومعانيها في تقاليد ومفاهيم المجتمع البدوي في الأردن.
وبحسب المصدر نفسه، فإن هذه الزيارة، إلى جانب زيارة أحمد الدقامسة إلى خيمة العزاء، ربما تكون قد عززت مشاعر التلاقي الوطنية الطابع بالتعاضد في مناسبة عزاء مرتبطة بشهيد سقط من أجل فلسطين، وأشاعت مناخا بأن لا وجود لحالة شقاق بين مجتمعي العشائر والإسلاميين عندما يتعلق الأمر بقضية فلسطين، ولا حول الانتخابات التي كان مرشحو التيار الإسلامي يجدون خلالها صعوبة عادة في دخول مناطق العشائر.
وهناك اعتقاد شائع الآن بين الأردنيين، بغض النظر عن موقفهم السياسي من جماعة الإخوان المسلمين، ومن حركة حماس، بأن نتيجة الانتخابات، كانت عمليا بمثابة تصويت تأييدا لخط المقاومة، وللكفاح الذي يخوضه الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة في مقاومة آلة القتل الإسرائيلية.
لكن المصدر الأردني المستقل، يرى بعدا إضافيا لا يقل أهمية، قائلا إن نتائج التصويت تقول إن الأردنيين أيضا باتوا يشعرون بأن الخطر الذي تمثله إسرائيل، ليس مقصورا على “أشقائهم” الفلسطينيين على الضفة الأخرى من نهر الأردن، وأنه صار يتهددهم هم كأردنيين وكدولة، ومن ثم فإن تصويتهم كان يجب أن يحمل رسالة سياسية مدوية.
ويقول مصدر أردني مقيم في إن مشهد الحياة السياسية في الأردن، أضحى أمام معادلات جديدة، وأن النظام الأردني يدرك بشكل حقيقي معنى التلاقي بين العشائر والتيار الإسلامي حول قضية كبرى مثل غزة. وذكر المصدر بأنه بينما تطالب جبهة العمل الإسلامي بتجميد التعاون التجاري والأمني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلية، وحتى إلغاء “معاهدة وادي عربة” التي أرساها الملك السابق الحسين العام 1994 للتطبيع مع إسرائيل، فإن العشائر في المقابل، والذين قدموا مؤخرا شهيدهم الجازي وتباهوا به، ولاقوا تعاطف العشائر الأردنية الكبرى الأخرى معهم، هم من يوفرون القوة البشرية الأساسية في أجهزة الجيش والأمن الأردني، الدرع الضامن لنظام الملك عبدالله الثاني.
يضاف إلى هذه الصورة المستجدة، مشاهد آلاف الأردنيين الذين احتفلوا باستشهاد الجازي في مختلف مناطق المملكة، وقطعوا مئات الكيلومترات من أجل حضور مراسم خيمة العزاء في قريته الحسينية في جنوب المملكة، وهو ما يمنح انتخابات الأردن، ملامح ما هو أكبر من عملية اقتراع فقط.
وإذا كانت نتائج الانتخابات بمثابة “طوفان أردني”، فإن هناك حالة غليان حقيقية في الشارع الأردني، كما تؤكد المصادر الأردنية، ومن غير الواضح كيف سيعمد القصر الملكي إلى التعامل مع هذه العناصر المتراكمة، فيما يجد الملك عبدالله تعثرا واضحا في ترجمة ما تفرضه “اتفاقية وادي عربة” من وئام وتنسيق، من أجل ممارسة ضغط ناجح لوقف شرارات الحرب الإسرائيلية المتطايرة يمنة وشمالا.
وبحسب المصدر الأردني، فإن الملك الأردني سيجد نفسه مضطرا إلى الإقرار بعناصر المشاهدة المتبلورة أمامه، من خارج الحدود، وفي الداخل الأردني الغاضب، وسيحظى الإسلاميون بصوت مسموع بشكل أكبر في قاعة مجلس النواب، ومن غير المستبعد أن يلجأ الملك إلى “توزير” شخصيات من التيار الإسلامي في الحكومة الجديدة المفترض أن تنبثق أخذا بعين الاعتبار نتائج الانتخابات.
ومع ذلك، ليس من المفترض المبالغة في توقع أن نواب جبهة العمل الإسلامي الـ31، سيكونون قادرين وحدهم على تغيير المعادلات السياسية في البلاد، في برلمان مؤلف من 138 مقعدا، خصوصا أن النظام السياسي القائم في الأردن، يتيح للملك سلطات واسعة، بما في ذلك حل البرلمان نفسه، وهو الذي يمتلك الكلمة الأخيرة في تحديد سياسات وأولويات المملكة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ومن جهته، يقول المصدر العربي أنه برغم العرس الديمقراطي الذي عاشه الأردنيون، برغم محدودية نسبة الإقبال، فإنه يجب ألا يغيب عن البال أن “الدولة العميقة”، ومن خلال جهاز المخابرات، تدير من خلف الستار الكثير من خيوط الترشح والدعم وإعداد القوائم وتوجيه الناخبين للتصويت لمرشحين أو قوائم حزبية معينة، وهو ما يطرح تساؤلات عما إذا كان هذا الصعود الإسلامي المباغت، هو في حقيقة الأمر مضبوط لأهداف معينة.
وتلخص المصادر الأردنية والعربية مجموعة من الملاحظات:
-القانون الانتخابي نفسه معد، لئلا يتمتع أي حزب بالأغلبية وحده، بما في ذلك الإسلاميون.
-الناخبون كافئوا التيار الإسلامي؛ لأنه تصدر طوال شهور مشهد التظاهر أمام السفارة الإسرائيلية في عمان، تضامنا مع غزة
-خمول الأحزاب والقوى الأردنية المحسوبة على التيارات القومية واليسارية، وأدائها الهزيل ليس فقط في مناصرة غزة، وحتى في مخاطبة الجماهير وحاجاتهم.
-خيمة عزاء الشهيد الجازي، تكاد تتحول إلى مزار للأردنيين كلهم، وحضور القيادات الإسلامية إليها عشية اليوم الانتخابي، كرسم صورة تضامنية مع فلسطين لا يمكن إغفالها تماما مثلما كانت رسالة عشيرة الحويطات تأييدا لعمليته المقاومة.
-بإمكان الحكم الأردني الاستفادة مما يسميه البعض “الفزاعة الإسلامية” الصاعدة إلى المشهد، لمخاطبة الأميركيين ومن يعنيهم الأمر من داعمي النظام الأردني، بأن الحرب على غزة، يجب أن تدفعهم إلى دق ناقوس الخطر.
-سيكون بإمكان الأردنيين القول بصوت عال، أنه مقابل حكومة الاحتلال المنقادة من اليمين المتطرف، والتي تهدد بنكبة جديدة بحق الفلسطينيين، هناك ما يتغير جذريا على الضفة الشرقية من نهر الأردن، الجبهة التي يمكن أن تكون الأكثر خطورة على استقرار الاحتلال فيما لو مضى بسياساته، وعليه أن يعي ذلك.
-شرعية النظام الأردني مرشحة لمزيد من التآكل، ما لم يحسن الملك التقاط الإشارات والرسائل المتتالية الصادرة عن الأردنيين عموما، والكف عن وأد حركة الاحتجاج على مذابح غزة.
-هناك مخاوف أردنية من أن عدم تحرك الملك ووزارة الخارجية سريعا وبشكل حاسم لاستعادة جثمان الشهيد الجازي من إسرائيل، وفي مثل هذه الأجواء السائدة، قد يخلق حالة غليان إضافية -الصوت الأردني المعترض على وجود السفارة الإسرائيلية، واستمرار تمركز القوات الأميركية الداعمة للاحتلال على نحو مباشر، سيصبح أعلى.