أحمد علي هلال
(مجلة فتح – العدد768)
لا شك أن الرواية مطلق رواية، هي كناية عن مغامرة تدفع التجريب إلى آفاق منشودة، وفي استحقاق هذا التجريب سوف يجلو وعي الروائي فهمه ومفهومه للفن، بوصفه استحقاقاً ناجزاً، وكيف إذا تعالق هذا العمل بمنظومة فكرية وكفاحية بآن، سترتبط بقضية وموقف وبحث، كحال رواية الأسير الفلسطيني باسل خندقجي (قناع بلون السماء)، في روايته المركبة وهي أكثر من رواية تقوم على تعدد الأصوات والعبور من الحكاية الرئيس إلى المقولة الحاكمة للعنوان في احتمالاته وممكناته الدلالية الواسعة.
لكننا ونحن نستدعي نظريات القراءة في هذه الرواية، يمكن لنا أن نتساءل عن المنهج الذي يقارب وربما يستقرئ دينامية وحركية هذه الرواية، إذ إن المنهج المتعدد هو من يملك مفتاح الدخول إلى هذه الرواية، والأدل القراءة الثقافية واستدعاء المنهج الثقافي، بأدواته وطريقته والذي من شأنه أن يدع القارئ أمام عمل مركب بامتياز، وسيمثل ذروة في تجارب باسم خندقجي الروائية الذي ابتدأها بـ (مسك الكفاية)و (سيدة الظلال المرة) و(نرجس العزلة) و(خسوف بدر الدين)، وهو الشاعر الذي كتب مبتدأً تجربته الأدبية بـ (طقوس المرة الأولى) و(أنفاس قصيدة ليلية) وصولاً إلى (قناع بلون السماء) بأقسامها وفصولها.
بدءاً من تحولات وسيرورات بطله (نور المشهدي) وضراوة البحث التاريخي والآثاري عن مريم المجدلية، حينما يقرر نور أن يكتب رواية عن المجدلية، ويذهب في إثر أسرارها المخبوءة أو السرية، وستتبدى لنا الذريعة السردية في العثور مصادفة على هوية الإشكنازي اليهودي (أور شابيرا)، لكن خندقجي سيكتب رواية عن بطل يفكر في كتابة رواية، مستدخلاً القارئ في النص، ليجهر بخططه وببيانه السردي معتمداً على غير تقنية روائية، حتى يستطيع أن يقود بطله المفترض في أجواء روايته، فمن القناع إلى البطاقات الصوتية، إلى الاسترجاع والاستباق، حتى تحوز -هذه المغامرة- على اكتمال عناصرها الموضوعية/ والفنية، أي بتحديد مساراتها الزمانية والمكانية، دخولاً في لعبة الرواية وجهراً بالراوي العليم الذي يحرك نور وبقية الشخصيات الثانوية والرئيسية، نور سيتنقل بالقدس بحرية تامة ويدخل سوق الخردوات ويشتري معطفاً يجد داخله بطاقة هوية زرقاء باسم أور شابيرا، وتعني بالعبرية نور، وهكذا سيعبر جهاز التفتيش ويسجل في بعثة تنقيب آثارية، تذهب للمكان الملاصق للمكان الذي يريد بطله أن يبحث فيه عن أسرار المجدلية، على أن سؤال الهوية الذي لا ينفك الروائي باسم خندقجي على امتحانه طيلة الرواية وزمنها القصير، وليتحرك أبطاله على مسرح روايته ضمن هذا السؤال، الهوية والمكان، ويبقى لنا أن نتساءل هل هي رواية فلسفية أم تاريخية، أم سردنة للهوية ومتعالياتها؟، وعلى المستوى الفني التقني، ستكون أداة الروائي في استخدامه البطاقات الصوتية، بمثابة اللحمة للرواية والنسيج لتكتمل في نطاق التلقي، البطاقات الصوتية من قبل بطله نور، ما يعني هنا أننا إزاء نصوص موازية، أي متعاليات نصية من أجل خلق التفاعل المنشود بين النصوص، تقوم إستراتيجيتها على تضافر ملحقات نصية وعتبات، لا تتخفف من شعريتها المقتصدة والمكثفة على نحو يمكن القارئ من الدخول إلى الرواية التي ستبتدئ قبل عام من النكبة، إلى ما قبل الميلاد، عن أيام السيد المسيح عليه السلام، وتلاميذيته والمجدلية، وحقيقة الأمر إن النصوص الموازية لا تقل أهمية في اندغامها في المتن الروائي عن قصد الروائي كما نصه، في الجهر بالبحث عن الطريقة التي سيكتب بها باحثاً في التاريخ الفلسطيني ومكتشفاً فلسطين الأخرى، فهي بمثابة السياج الذي يحيط بالنص، والبؤرة الأساسية للدخول في عوالمه المتعددة تتصل وتتداخل في علاقة جدلية لتصبح مرجعية بذاتها ولذاتها، في مواجهة المتلقي الذي سيرسم انطباعاً عن فعاليات السرد، وبوصلة للرواية عبر تعدد أصواتها، من الصمت إلى التوقف إلى استثمار الحواس، إلى التعضيد الثقافي، وخصوصيتها أي الرسائل الصوتية، سيتبدى للقارئ بذلك الاشتباك البلاغي من المفردات إلى النبرة ووجهة النظر، ليؤدي تأثيره وإيقاعه مسهماً في الأحداث بقصد تأويلها المستمر.
فهل كانت (شفرة دافنشي) لـ دان براون، هي المحرك والذريعة الإضافية، لا ليحاكيها باسم خندقجي وحسب ويذهب في اكتشاف المجدلية، بقدر ما سيجهر بمرجعياته الثقافية من دراسات آثارية وتاريخية، سيخلق منها الروائي -خندقجي- ما اصطلح عله هو بواقع خيالي (مستوطنة مشمار هعيمق وقرية اللجنون المهجرة، وثورة باركوخيا، وموسم التنقيب عن الفيلق الروماني السادس، ومعهد أولبرايت للأبحاث التاريخية).
لكن باسم خندقجي، وهو يأخذنا في رحلة معرفية وتاريخية بامتياز، إلى بحثه التاريخي الذي يتقنع بالرواية، ويذهب في إثر أفعالها وارتكاباتها (ليعقلن التخيل) كيف سيكتب الرواية؟ وسنقول راهناً كيف كتب روايته؟، هل باللغة الرهيفة وحدها، لتحمل سيرة المجدلية وليضفرها في الزمن الماضي التاريخي والزمن الحاضر؟، وليستقيم كل ذلك، فبطله أستاذ جامعي وهويته الفلسطينية حيفا، يافا، الناصرة، وكيف سيستفيد من مزايا الهوية الزرقاء؟، لتكون المحرك الأكبر لسؤال الهوية.
ستلوح في باله الفكرة عن رواية المجدلية ليقوم بتسجيلها عبر برنامج التسجيل الصوتي في هاتفه المحمول، مبتداً بالبطاقة الصوتية رقم 13، ولا يُخفى هنا أن باسم خندقجي سيسعى إلى تشكيل قاعدته المعرفية وتصوره العام للرواية، وزمن السرد وولادة نور، وبيئته وعائلته، أي ولادته الحاسمة الافتراضية حينما يعثر على البطاقة الصهيونية، في معطف أور شابيرا الذي يكبره بخمس سنوات، وليخبئها في جيب معطفه الداخلي قبالة القلب تماماً، وسيتطير الروائي من الترقيم ليكتفي بالتاريخ والعنوان، وستكون هذه البطاقات الصوتية في خدمة تصوره الأمثل لرواية المجدلية، إذ يتداخل السارد بالروائي حسماً لزمن السرد، وإرهاصاً للمثقف المشتبك (تريد مني أن اشتبك، لقد اشتبكت يا صديقي في القدس، في أعالي قمة توراتية إلى أن تدحرجت عنها ووصلت هنا إلى حجرتي هذه مصاباً بكدمات وجراح أصابت هويتي ووجودي)، ما بين الصمت والبوح والقراءة والتسجيل، في هذا الما بين يعيش نور الشهدي ما بين المخيم في رام الله، وشوارع القدس، لكن الأدل أنه سيعيش تجربة كتابة الرواية الممكنة عن اكتشاف فلسطين الأخرى، فمن المحاولات اليائسة في تقصي واثبات السيرة التاريخية لمريم المجدلية، لا يقحم –الخندقجي- قارئه ببيانات تاريخية ودينية وغنوصية، أي عرفانية معرفية، تقوم على الاعتقاد بالخير الأسمى أو الشرارة الإلهية، في مقابل شخصية أخرى ستبدو مطيفة شخصية (مراد) القابع في سجون الاحتلال والتي سترافقه على مدار تسجيلاته الصوتية، فلماذا ظل مراد طيفاً وصوتاً آخر وهذا ما سيجعل من مراد المعتقل أقرب إلى صوت الضمير الذي يرسم –الخندقجي- في بطاقاته الصوتية شخصية مراد المعادي للكولونيالية والمعادل لمكابدات نور شهدي وهواجسه وتناقضاته ومخاوفه، وفي ذات الوقت فإن التصور الأمثل لرواية المجدلية، فمثلاً في البطاقة التي تحمل تاريخ العشرين من نيسان، ثمة بحث في المسكوت عنه وقراءة تأويلية للأناجيل الأربعة، وتأويل للآيات التي تشير إلى المجدلية، فالمجدلية (هي الحضور المتناقض في الحياة ثنائية الخير والشر… إلخ).
وستمثل ملاحظاته لصديقه مراد، كما مخاطبته بعزيزي مراد، وبالقراءة السيميائية ما يمكن أن نصطلح عليه ما هو أكثر من العتبات والنصوص الموازية، إلى مكملات الرواية ومتمماتها، المتممة لخطاب الهوية وغوايتها التي دفعت بنور إلى الاتحاد بها وعدم التنازل عنها، (كنت أشعر بتشبثها بي، بشعري الطويل المجعد وعيني الزرقاوين ولغتي العبرية ذات اللكنة الاشكنازية)، لكن مراد الغائب الحاضر، الحي الميت، هو مرآة نور أكثر من أور شابيرا ظله في شوارع القدس، وعلى سبيل المثال أيضاً فإن البطاقة التي تحمل تاريخ 21 نيسان/ القدس مساء، سوف تركز على الجوانب الفنية ، أي لتمكن الروائي من السياق التاريخي والديني للفترة التي عاشت فيها المجدلية بعد صلب يسوع، وتوفيراً لقاعدة بيانات لنسيم شاكر، حول الأماكن التي سيتحرك بها، وهكذا يستمر في الجهر بأسئلة إضافية، منها أنه لا يعلم إذا كانت القدس ستمنحه ظله، أم ظل نور أور، في البطاقة التي تحمل تاريخ الخميس 22نيسان/ القدس، ليعود مستخلصاً في بطاقة جديدة أن المجدلية هي التلميذ المحبوب، التي تحولت إلى أثر من آثاره.
إن السيرورة الحكائية في البطاقات الصوتية، ستأخذنا إلى الفرق بين الحكي والكتابة وينعته –باسم خندقجي- بالفرق الشهرزادي (أنا أحكي إليك كي أحيا، مثل شهرزاد التي صمت أكثر من ألف ليلة وليلة، في وجه الجلاد الشهرياري، فالحكاية هي الكأس المقدسة).
صراع نور مع أقنعته ومصطلحاته وأفكاره، وعودته إلى داخل البيت المقدسي العتيق، وصراعه أكثر حول مفهوم النكبة بوصفها النصب التذكاري للمحرقة، وتعرفه العملي الملموس على أرضية روايته، لناحية تحديد معسكر الفيلق الروماني السادس، سيضيف إضافة مهمة للمساحة التي سيتحرك بها بطل الرواية نسيم شاكر، وسنرى كيف تعززت أواصر العلاقة بين مريد المجدلية السري سمعان الأعرج، وما توارثته أسرته وحفيده مسك العطار من صندوق المجدلية السري والموقع الجغرافي للفيلق الذي يقع على مسافة قريبة من تل مجدو الأثري.
تحرز الرواية هنا شعرية أعلى،حينما يصف هذا التل بالقول: (تل يطل على سهل/ ربوة حبلى بأكثر من عشرين مدينة/ تتقلب فوق آلام مخاضها/ مجدو يا أنثى السر القديم/ كم من معركة وقعت في سريرك السهل/ الذي لم يكن سهلاً على العالمين)، إن الحبكة الموازية للحبكة الرئيسية الخاصة بتاريخ المجدلية، هي من أجل الإعلاء من شأن المجدلية ومن أجل البئر الموجودة في اللجنون، وسيُزود نسيم شاكر بهذه البئر، فبدونها لن يقوى على كتابة الرواية.
إن تواتر البطاقات الصوتية في الفصل الأخير من الرواية، كل ذلك من أجل أن يخبر صديقه مراد أن اكتشاف خبايا البئر هي الجزء الأهم من مادة الرواية لبطله نسيم شاكر، ولا يغفل خندقجي هنا عن إيراد نصوص من رؤيا يوحنا اللاهوتي، من أجل تدعيم سرديته التاريخية وبحثه المستمر عن المجدلية، والذي سيتوقف في بطاقته عصرية الثلاثاء 11 أيار، لتحل محلها شخصية سماء إسماعيل بوصفها المعادل لهويته، والحقيقة المطلقة التي تكشفها مواقف سماء إسماعيل في تجذرها بهويتها الفلسطينية، ورفضها للاستيطان، (أظلمت آفاق روايتي المجدلية، وحلت محلها تجليات سماء) ، ينهي الخندقجي تسجيل بطاقاته الصوتية إثر توقف العمل في موقع حفرية الفيلق السادس بسبب الأوضاع الأمنية المتوترة في القدس وحي الشيخ جراح، يخرج نور من مكان الحفريات ليصعد حافلة تقل سماء إسماعيل (لا مكان للحلم في حقيقتها، ثم ينتصب واقفاً ينزع قلادة نجمة داوود من عنقه، وينتشل بطاقة الهوية المزورة من جيبه ممزقاً هوية أور شابيرا، ليقول لسماء: أنتِ هويتي ومآلي وليؤرخ تلك اللحظة بالتاسع من تشرين الثاني عام 2021، سجن جلبوع الكولونيالي. أي تسقط هنا السردية المختلقة والمتعالية والمتوحشة لتعلو السردية الأصلية المهمشة: فلسطين المطمورة تحت التراب بكل تاريخها.
ذلك هو خطاب الرواية في ختام مقولاته وتضافر عناصره الفنية، التي يمكن لها أن تؤدي غير وظيفة انتباهية للقارئ من الرسائل الصوتية إلى القناع، إلى الرسائل والمخاطبات، ذلك التوازي الذي ينجزه باسم خندقجي في روايته (قناع بلون السماء)، والموسوم بالتجريب العالي، من شأنه أن يسهم في خلق جدلية لتلقي الرواية، وماهية ا لقارئ الذي يتلقاها سواء أكان هذا القارئ افتراضياً أم مثالياً، أم قارئاً عاماً وربما كل ذلك في رواية تجهر بمتن الصراع، لكنها تضايفه بسعة من متخيل اللغة واستثمار خطاباتها الموازية، على المستوى الجمالي والفكري وتلاحم الدلالة في نسيج روائي سيخلق الكثير من الأسئلة المنتجة لهذا الشكل الروائي المغاير، والذي يقوم على ثنائية الشبيه المختلف، والمخاثلة والمخاتلة، في جذب القارئ ليكون كل هذه الشخصيات وخلاصتها، نسيم شاكر الذي سيكتب الرواية بعيداً عما كان يطلبه مراد من الانصراف إلى ما يجري في القدس من مواجهات، والانتباه إلى لعنة العالم الكولونيالي بدلاً عن البحث المضني في تاريخ المجدلية السري.