من النكبة إلى الطوفان

 

أحمد علي هلال

(مجلة فتح العدد 766)

سيعبر سؤال النكبة الكبير وبما انطوى عليه من سيرة تراجيدية مترعة بالذاكرة وممتلئة بها يومياتنا هذه ولحظتنا الفارقة مصيراً ووجوداً، يساءل أكثر اللحظات إشراقاً، أي سيرورة المقاومة فكراً ونهجاً، سيتخطى ما خلفته النكبة من آثار في الأرواح والنفوس، منذ ستة وسبعون عاماً، وبالانتباه إلى كل المتغيرات التي حملتها القضية الفلسطينية ومنعطفاتها الصراعية، وفي شكل هذا العبور علينا أن نتأمل أن استعارات النكبة الفلسطينية في الأدب والوجدان قد انفتحت على غير مستوى، لا سيما في سؤال الوجود والصراع بآن، وكيف انعطفت المخيلة/ مخيلة التاريخ صوب اشتقاق فهم يتجاوز الواقع ويستقرئه أيضاً، على الرغم من المساحات الرمادية والسوداء  التي ظللت أزمنة النكبة ووقائعها الحارة التي لا ينبغي أن تغيب عن ذاكرتنا الوطنية والإنسانية، من تشريد انقلب في الوعي إلى عودة، ومن اقتلاع وخيمة إلى مخيم، وتشبث بالجذور، ومن استلاب الوعي إلى إعادة بناء الوعي المقاوم، الذي كان كلمة السر في أزمنة النكبة الماضية وأشكال المقاومة المتصاعدة تثبيتاً للحق والوجود، في أشكال من الانتفاضات التي غيرت في الوقائع معنى أن تكون النكبة تاريخاً فحسب، وبمعنى آخر فإن ما جرى على مستوى المصطلحات والأفكار والمفاهيم والرؤى، أصبح يتصل بوعينا الجمعي أكثر مما مضى، إنتاجاً للحظة معرفية نستشرف من خلالها ما جرى وكيف جرى، وكيف نواجه بوسائلنا المشروعة ما فُرض من وقائع على حاضر ومستقبل شعبنا العربي الفلسطيني، والذي شكل على الدوام خط الدفاع الأول عن وجوده ومقدساته وأرضه وتاريخه وهويته، التي سعى المشروع الصهيوني إلى إذابتها وتفكيكها، ولمّا يزل في إثر هذه الهوية والتي أثبتت أنها مازالت هوية شعب مقاوم رفض أن تكون النكبة واقعه، ليتجاوزها مجترحاً كل الأساليب للمقاومة الضارية، رغم أن الوجه الآخر كان في المآسي المروعة والمذابح التي سعت لاستئصال شعبنا الفلسطيني من أرضه ومن ذاكرته وتاريخه، لكن التاريخ أبى إلا أن تكتبه إرادة المقاومين أبناء الأرض الراسخين في الحق وفي التراب، ليعود الوطن في الوعي حارساً لأحلامهم ومفجراً بمواجهاتهم الطليقة مع آخر احتلال على وجه الأرض، كل تلك السيرورات التاريخية كان لها أن تأتلف في المعنى الكبير الذي جاءت به ملحمة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، وليُكتب تاريخ جديد للوعي الفلسطيني المقاوم، والمتراكم في طبقات الزمن عبر عقود مديدة، لحظة لها ما بعدها من استحقاق وجودي على الرغم من المذابح والمجازر التي شكلت (التاريخ) الحقيقي للصهيونية وأحلامها التوراتية وخرافاتها المؤسسة.

ملحمة طوفان الأقصى في نسيج الوعي الفلسطيني والعربي والإنساني والعالمي الجديد، هي تاريخ ما نسيه التاريخ واستئناف لتوهج المقاومة وعلو كعبها وذرواتها الأعلى في خط أفق المقاومة، بجدلية البطولة والمأساة وما يفترعه المقاومون في مواجهاتهم المفتوحة مع المشروع الصهيوني، بل بما أرساه الشهداء من حقائق كبرى على الأرض وهم يعضدون اسم فلسطين وينحتونه على كل صخرة وحبة تراب في غزة، وفلسطين كلها من بحرها إلى نهرها، انعطافة في الوعي وأكثر من أجل تثبيت حقائق الصراع وعودة القضية الفلسطينية إلى المربع الأولى، بل إن فلسطين من أعادت العالم كله وحررته من أسر الصهيونية واغتصابها للأرض والتاريخ والجغرافيا وتزييفها لحقيقة الصراع، وسيبدو تاريخ السابع من أكتوبر بلحظته الفاصلة أكثر من طوفان سيعبر من أمام البشرية كلها حاملاً اسم فلسطين وقضيتها في أشكال الثقافة الجديدة والوعي الجديد الذي يليق بأجيال من الشهداء والمقاومين الذين كبروا، وفي النكبة كانوا فتية يتهجأون اسم فلسطين، لكنهم الآن من حفروا ذلك الاسم على جدارية الوعي الإنساني لتعود في استحقاق المصير لأرض البدايات وأرض النهايات.

About علي محمد

مدير التحرير

Check Also

قناع بلون السماء من النص إلى القارئ وإستراتيجية النصوص الموازية

أحمد علي هلال (مجلة فتح – العدد768) لا شك أن الرواية مطلق رواية، هي كناية …

آخر الأخبار