رئيسي الذي سمعه العرب في الرياض خلال شهر تشرين الثاني الماضي، يقول إن “الحل الدائم لما يجري في المنطقة هو إقامة دولة فلسطينية من البحر إلى النهر”، مؤكداً بذلك إيمانه بدنوّ أجل غروب شمس الكيان الإسرائيلي، هو ابن تجربة طويلة، سياسياً وقضائياً.
السيد شبل
قبل استشهاده بساعاتٍ قليلة، كان الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، يخطب من أجل فلسطين وقضيتها وحق شعبها في الحرية والعيش الكريم، فلم ينسَ أهل غزة ومآسيهم حتى في أثناء لقائه الأخير رئيسَ أذربيجان من أجل تدشين سد “قيز قلعة سي” المشترك بين البلدين.
انحاز رئيسي إلى الشعب الفلسطيني، عبر كل الصور الممكنة، وجاء ذلك تعبيراً عن نهج الثورة الإيرانية القائم منذ نهاية السبعينات، وهو الانحياز الذي لم يقف يوماً عند حدّ الكلمات أو بيانات الإدانة للجرائم الصهيونية، بل امتد منذ اليوم الأول إلى ميادين الدبلوماسية والسلاح والإعلام.
ميزة طهران الأساسية كانت دوماً أنها أخذت القضية الفلسطينية على محمل الجدّ، وآمنت بإمكان تحرير الأراضي المحتلة وزوال “إسرائيل”، فقطعت كل العلاقات التي كان شيّدها الشاه محمد رضا بهلوي مع “تل أبيب”. وبعد أسبوعٍ واحد من نجاح الثورة عام 1979، كانت السفارة الإسرائيلية تم إغلاقها، وتسليمها إلى منظمة التحرير الفلسطينية، بحضور ياسر عرفات، الذي زار إيران كأول ضيف أجنبي يحلّ بعد سقوط النظام القديم.
لم يتعامل ثوريو إيران مع فلسطين على أنها عبءٌ يُلزمهم بالتورط فيما يزعج واشنطن، كما يعتقد بعض القادة العرب، بل عدّوها مفتاح النجاة للمنطقة بأسرها، وأن تطهيرها من الاحتلال دليل تحرّر المنطقة بأسرها من الاستعمار الغربي، وأن عودة القدس كاملة إلى أهلها هي السبيل الوحيد إلى أن يستقيم الميزان العالمي، فلا تتفرّد أمة وحدها بالتحكّم في مصير البشر.
كان إبراهيم رئيسي في مطلع شبابه، في عمر التاسعة عشر، يهتف باسم فلسطين في شوارع طهران، عندما أعلن قائد الثورة ومُفجّرها الراحل الإمام الخميني تغيير اسم الشارع الذي كانت تقع فيه السفارة الإسرائيلية من “كاخ” إلى “فلسطين”، ليعلن بذلك بداية عصر جديد في العالم الإسلامي، مركزه طهران، وعنوانه دعم القضية الفلسطينية، وهيكله محور مقاوِم قادر على إلحاق الأذى بـ”إسرائيل”، حتى زوالها.
كان رئيسي، الذي يمتد نسبه إلى الإمام الحسين بن علي، وتضم عائلته في مدينة مشهد عدداً من علماء الدين، عنصراً فعالاً في أتون المعارك التي دارت بعد انتصار الثورة الإيرانية. وبعد إكمال دراسته الدينيّة ودراسته القانونية، تدرّج في المناصب القضائية. وخلال مسيرته الوظيفيّة نال درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة الشهيد مطهري.
أدى الرجل، الذي اقترب من الإمام الخميني وتعلّم منه أموراً في السياسة والدين والقضاء، دوراً بالغ الأهمية في حماية أمن البلاد والتصدي للجماعات التخريبية التي حاولت الاستيلاء على أجزاء من أراضيها وتهديد استقرارها ومبادئ ثورتها، خلال عام 1988. ومن أجل ذلك استهدفته واشنطن مبكراً بحملات التشويه والعقوبات.
خلاصة الأمر أن رئيسي، الذي سمعه العرب في الرياض خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، يقول إن “الحل الدائم لما يجري في المنطقة هو إقامة دولة فلسطينية من البحر إلى النهر”، مؤكداً بذلك إيمانه بدنوّ أجل غروب شمس الكيان الإسرائيلي، هو ابن تجربة طويلة، سياسياً وقضائياً.
تفتّحت تجربته في بواكير شبابه مع النضال ضد الشاه ثم انتصار الثورة، ووصلت به إلى تولي أعلى المناصب القضائية رئيساً للمحكمة العليا، ثم مدعياً عاماً لإيران، ثم المدعي العام للمحكمة الدينية الخاصة، إلى جانب توليه إدارة العتبة الرضوية المقدسة، التي تدير ضريح الإمام الرضا في مدينة مشهد.
رئيسي في السلطة.. ونضالٌ من أجل فلسطين
في عام 2017، ترشّح إبراهيم رئيسي لمنصب رئيس البلاد، لكنه خسر أمام حسن روحاني، إذ حصل على 38.3٪ من الأصوات، بينما حصل الفائز على نحو 57٪، في انتخابات شارك فيها أكثر من 73%، إلا أنّ رئيسي، الذي ركزت حملته على خدمة فقراء الشعب، عاد ليكرر التجربة في عام 2021، ليحصد المركز الأول، ويصبح رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية الثامن منذ الثورة.
كانت المقاومة عنصراً أصيلاً في تكوين رئيسي، حتى إن نهجه الاقتصاديـ الذي تبناه لتحسين حياة المواطنين داخل إيران، أطلق عليه اسم “اقتصاد المقاومة”، وهو يركّز ببساطة على تحويل العقوبات من مغرمٍ إلى مغنم، عبر تنمية قدرات المجتمع للاعتماد على ذاته، ودعم تطوير القطاعات الإنتاجية في الزراعة والصناعة، عوضاً من إنفاق موارد البلاد على مراكز التسوق، والتي كان يرى رئيسي أنها “ستفيد في نهاية المطاف العلامات التجارية الأجنبية”.
وسعى رئيسي، خلال فترة حكمه، لمضاعفة الإعانات الحكومية الشهرية التي تُقدَّم إلى الأسر الأقل دخلاً، وأكسبه ذلك شعبية كبيرة في مختلف أنحاء إيران، وخصوصاً في المناطق النائية والفقيرة، كما أنه نجح في عبور بلاده من أزمة “كوفيد 19” بأقل الخسائر الممكنة.
على مستوى العلاقات الخارجية، كان برنامج رئيسي يتلخّص في السعي لإقامة علاقات تعاون بجميع الدول باستثناء “إسرائيل”. ونجح في رفع سقف العلاقات بكل من بكين وموسكو إلى درجة أكثر تطوراً. ولعلّ موقفه المرن تجاه مدّ الجسور مع كل الدول، هو ما سهّل التوصل إلى اتفاق عودة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض في عام 2023، برعاية صينية بعد سبعة أعوام من القطيعة.
بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، بمجرد استقرار رئيسي في الحكم أكّد دعم بلاده للمقاومة في فلسطين ولبنان، وحذّر من أن “إسرائيل” سيتم استهدافها من جانب القوات المسلحة الإيرانية إذا قامت بأدنى خطوة ضد إيران. وبَرّ رئيسي وعدَه، فعندما قامت “إسرائيل” بقصف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، في مطلع نيسان/أبريل 2024، ردّت إيران بضربات صاروخية وطائرات من دون طيار تم توجيهها من أجل إصابة أهداف داخل الأراضي المحتلة ذاتها.
يمكن سرد صور الدعم، الذي قدمته طهران إلى القضية الفلسطينية، خلال فترة حكم الشهيد إبراهيم رئيسي، عبر النقاط الآتية:
أولاً: مثّل وصول رئيسي إلى الحكم في طهران، بخلفيته السياسية المحافظة، دفعة قوية إلى الأمام فيما يتعلق ببرنامج عمل المقاومة داخل فلسطين وخارجها.
منذ البداية، أعلن رئيسي رفضه الاحتلال الإسرائيلي، وعدم قبوله أي تسويات لا تتضمن زوال الكيان.
ثانياً: جاء رئيسي في وقت تسارعت عمليات التطبيع بين عدد من العواصم الخليجية و”تل أبيب”، فيما عُرف بالاتفاقيات الإبراهيمية. وبالتالي، فإن القضية الفلسطينية كانت في أمسّ الحاجة إلى زعيم إسلامي يتبنى خطاً جذرياً في العداء لـ”إسرائيل”، ويؤمن بحق المقاومة في تنفيذ عمليّاتها ضد العدو.
ثالثاً: قدّمت طهران كل صور الدعم إلى المقاومة الفلسطينية، بدءاً بالتسليح، مروراً بالتمويل، وصولاً إلى الدعم الإعلامي، وهو أمر عزيز للغاية في هذه المرحلة، إذ تُحجم كل الدول، بما فيها الدول العربية والإسلامية، عن تسليح المقاومة أو إسنادها إعلامياً، حتى وإن أعلنت تعاطفها مع مأساة الشعب الفلسطيني.
رابعاً: نجحت الحكومة الإيرانية، تحت قيادة رئيسي، في توفير عناصر القوة لمحور المقاومة، بالإضافة إلى العمل على اتساع ساحاته. وكان ثبات “حركة أنصار الله” وصلابتها، حتى اليوم، على رغم الحرب التي شنتها الرياض ضدها، أمراً مهماً في هذا السياق.
فبمجرد أن شنّ “جيش” الاحتلال عدوانه على قطاع غزة، انخرط محور المقاومة في المعركة. فالمقاومة الإسلامية في لبنان نجحت في تشتيت العدو الإسرائيلي واستنزافه. أما الفصائل العراقية فلم تتوقف عن توجيه الضربات إلى القواعد الأميركية في المنطقة، بالإضافة إلى إطلاق الصواريخ والمسيّرات داخل الأراضي المحتلة.
أمّا المفاجأة فكانت القوات المسلحة اليمنية التي انخرطت في المعركة بكل ثقلها، فاستهدفت السفن الإسرائيلية التي حاولت عبور مضيق باب المندب، كما وجّهت صواريخها نحو أم الرشراش المحتلة، “إيلات”.
خامساً: كان الشارعان العربي والإسلامي توّاقَين إلى الأسلوب الخطابي الذي امتاز به إبراهيم رئيسي منذ عملية طوفان الاقصى، فمن بين كل القادة العرب والمسلمين كان رئيسي يمتاز بدعمه الصريح للعملية التي نفذتها المقاومة، صباح يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
وأعلن رئيسي، في أكثر من مناسبة، أن عملية طوفان الأقصى جاءت رداً على الظلم الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني، وأنها ستؤدي إلى نهاية الكيان الصهيوني.