إن محور المقاومة لا يسعى إلى “غلي الضفدع الإسرائيلي” فحسب، بل يسعى أيضًا إلى ضرب أكبر المشاريع الجيوسياسية الأميركية في غرب آسيا، بما في ذلك الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.
محمد حسن سويدان
بعد اندلاع حرب غزة، بدأت الشكوك تزداد حول إمكانية نجاح مشروع إنشاء هذا الممر
منذ بداية حرب غزة بدأت تظهر العديد من التحليلات التي تربط تداعيات الحرب على الممر الاقتصادي الهندي الشرق الأوسطي الأوروبي. فمع دخول محور المقاومة للصراع، ضمن جبهات المساندة للمقاومة الفلسطينية، برزت الشكوك حول إمكانية إيجاد ممر يعتمد بشكل أساسي على كيان العدو الإسرائيلي كنقطة وصل بين الشرق والغرب. فنجاح أي مشروع اقتصادي يرتبط بشكل رئيسي بعدم وجود أي توترات أمنية قد تزعزع ثقة المستثمرين. وبعد أن أطلقت “سرايا الأشتر” هجومها، في 27 نيسان/أبريل الماضي، على دولة الاحتلال الإسرائيلي حتى عادت التحليلات الغربية لتتحدّث عن مدى إمكانية تنفيذ الممر.
الأمن والتكامل الإقليمي
تشير الدراسات إلى وجود علاقة مباشرة بين الأمن والتكامل الإقليمي بحيث أن انعدام الأمن في بلد معيّن يؤدي بشكل تلقائي إلى فشل مشاريع التكامل الإقليمي التي ينتمي إليها هذا البلد. وبحسب تقرير حديث لصندوق النقد الدولي، صدر في 7 أيار/مايو الجاري، تقوم الدول حاليًا بإعادة تقييم شركائها التجاريين على أساس المخاوف الاقتصادية والأمنية. كما يذكر التقرير أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر يُعاد توجيهها اليوم بحسب المخاطر الجيوسياسية، أي أن ارتفاع المخاطر الجيوسياسية في دولة ما يؤدّي إلى انخفاض في تدفّق الاستثمارات.
ويضيف تقرير صندوق النقد، أنه نتيجة حرب أوكرانيا بات صناع السياسات يركّزون بشكل متزايد على بناء المرونة الاقتصادية، وهي قدرة السلطة على الاستمرار في العمل عند تعرضها للصدمة، وهو ما سيؤدّي، بحسب صندوق النقد، إلى تراجع الاهتمام بالتكامل الاقتصادي مع دول أخرى، والذي تحقّقه الممرات الاقتصادية.
مما لا شك فيه أن السابع من أكتوبر أثبت أن إسرائيل عرضة لهجمات في أي لحظة، وهو ما يعني أن دولة الاحتلال تمتلك معدّل مرتفع في مؤشّر المخاطر الجيوسياسية، وهو مؤشّر علمي يقيس مستوى المخاطر الجيوسياسية في نطاق جغرافي محدّد. ومع دخول محور المقاومة للحرب، وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر، بدأت تظهر التحليلات الغربية التي تشير إلى أن حرب غزة كشفت مدى “هشاشة إسرائيل” في إقليم مليء بأعدائها.
وبحسب الإعلام الحربي لحزب الله، نفّذ الأخير 1194 هجومًا على كيان العدو في الفترة الممتدة من 8 تشرين الأول/أكتوبر وحتى 5 آذار/مارس 2024، وهو أعلى معدّل استهداف للكيان في تاريخه. هذا عدى عن عمليات الاستهداف من العراق واليمن والهجوم الإيراني فجر 14 نيسان/أبريل الماضي.
نتيجة لهجمات محور المقاومة على كيان العدو ظهر اضطراب في عمل الموانئ الإسرائيلية، مما انعكس توقّفًا لبعضها بسبب الحرب. ففي كانون الأول/ديسمبر الماضي، قال الرئيس التنفيذي لميناء إيلات لوكالة رويترز “إن نشاط الميناء انخفض بنسبة 85 بالمئة منذ أن بدأ اليمنيون هجماتهم على السفن في البحر الأحمر”. كما أنه مع بداية حرب غزة تم إغلاق ميناء عسقلان ومصفاة النفط التابعة له، وهو الميناء الأقرب لقطاع غزة. حتى ميناء أشدود، الذي يقع على بعد نحو 40 كيلومترًا من قطاع غزة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، فرغم استمراره بالعمل إلا أنه تعرّض لأضرار جزئية. وبحسب إيلي بار يوسف، القائم بأعمال المدير التنفيذي لميناء أشدود، اضطرت إسرائيل في الأسبوعين الأولين بعد 7 أكتوبر، إلى إعادة توجيه حوالى 11 ألف حاوية متّجهة إلى ميناء أشدود إلى موانئ أخرى في الشمال. حتى ميناء حيفا لم يسلم من هذه الحرب فكان عرضة للهجمات من المقاومة العراقية، وهو ما يضرب ثقة الشركات في الاعتماد على الميناء كنقطة ربط بين آسيا وأوروبا.
وما يزيد الأمور صعوبة على الموانئ الإسرائيلية هو ظهور طرف جديد في الحرب. ففي 27 نيسان/أبريل الماضي أعلنت “سرايا الأشتر” البحرينية استهداف “موقعًا تابعاً لشركة Trucknet الإسرائيلية في إيلات جنوب فلسطين المحتلة”. واللافت أن الشركة المستهدفة مرتبطة بـ “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” (IMEC)، وهو ما يزيد الشكوك حول نجاح هذا المشروع.
الممر الاقتصادي الهندي الشرق أوسطي الأوروبي
خلال قمة مجموعة العشرين في أيلول/سبتمبر الماضي أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن الهند والسعودية والإمارات، إلى جانب إسرائيل وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة، يريدون إنشاء “ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا” (IMEC). وبحسب بيان للبيت الأبيض، يتضمّن الممر خط للسكك الحديدية وخطوط أنابيب الهيدروجين النظيفة ومناطق اقتصادية تمتد من الهند، عبر الإمارات والسعودية والأردن وكيان العدو، إلى ميناء بيريوس في اليونان. ومنذ الإعلان عن الممر، ركّزت التصريحات الأميركية على أن إحدى نقاط الجذب للممر هي أنه سيساعد في تعزيز التكامل الاقتصادي والشراكة داخل غرب آسيا.
إلا أنه بعد اندلاع حرب غزة، بدأت الشكوك تزداد حول إمكانية نجاح هذا المشروع. فهكذا مشاريع تعتمد بشكل أساسي على السلام في المنطقة بشكل عام، وفي أطراف الممر بشكل خاص. وقد أظهر السابع من تشرين الأول أن السلام في “إسرائيل” ليس مضموناً، بل التوتر ممكن دون سابق إنذار، وهو ما يضعف حماسة المستثمرين على الاعتماد على الكيان كجزء رئيسي من الممر. كما أن جبهات المساندة لمحور المقاومة مع إظهار إمكانية الوصول إلى كل الموانئ الإسرائيلية، أوصلت رسالة إلى كل من يعوّل أن يكون للكيان أي دور مستقبلي على شرق المتوسط.
بالإضافة إلى ذلك، يتطلّب نجاح الممر وجود علاقات رسمية بين أطرافه، وهو ما تعمل عليه الإدارة الأميركية منذ سنوات. ورغم استعداد السعودية، الطرف الوحيد في الممر الذي لم يطبّع رسميًا حتى اللحظة، على تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال، مقابل شروط محدّدة، يستمر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو برفض تنفيذ الشرط السعودي مقابل التطبيع. ومع إصرار نتنياهو على اعتماد الخيار العسكري في غزة، تزداد الشكوك حول إمكانية نجاح التطبيع كون وقف الحرب مقدّمة لازمة له.
وكانت السعودية قد أعلنت أن موافقة الكيان على حل الدولتين هو شرط مقابل التطبيع، لكنها مع الوقت وبسبب إصرار نتنياهو تنازلت حتى باتت تقبل بمجرّد موافقة إسرائيل على “وضع مسار لإقامة دولة فلسطينية”. ولا بد من التذكير هنا باتفاقية أوسلو التي وقّعت عام 1993، أي قبل أكثر من 30 عامًا، والتي كان يجب أن تضع مسارًا نحو “الحكم الذاتي الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية”. فمن يضمن ألا يأخذ مسار إقامة الدولة الفلسطينية 30 عامًا آخرين؟ إذًا بالمقارنة التاريخية، يمكن القول إن شرط السعودية للتطبيع هو فقط للتظهير الإعلامي ولإقناع الرأي العام العربي، إلا أنه ليس إلا خطوة إضافية في تدمير القضية الفلسطينية على حساب دمج إسرائيل في المنطقة.
وبحسب مقال لجديون راشمان في موقع فايننشال تايمز، هناك نقاش اليوم في الولايات المتحدة حول السؤال التالي: هل لا تزال إسرائيل تشكل ذخرًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، أم أنها أصبحت عائقًا استراتيجيًا؟ راشمان ليس الكاتب الوحيد في الغرب الذي يسلّط الضوء على هذا الموضوع. فقد نشرت مجلة فورين بوليسي مقالًا في آذار/مارس الماضي للكاتب جون هوفمان بعنوان “إسرائيل عبء استراتيجي على الولايات المتحدة”. ورغم أن هذا الرأي ما يزال غير شائع إلا أن نتنياهو يستمر بإعطائه الأسباب اللازمة لإقناع الآخرين.
فالأكيد أن الممر الاقتصادي الهندي الشرق أوسطي الأوروبي هو مصلحة استراتيجية أميركية. ولذلك وصفه بايدن بأنه “استثمار يغيّر قواعد اللعبة”. فالممر هو جزء من خطة إدارة بايدن لمنافسة الصين من خلال طرح مشاريع اقتصادية تضم جولة آسيوية كبرى، الهند، مقابل مشروع الحزام والطريق الصيني. إلا أن حرب غزة كشفت أن العائق أمام هذا المشروع هو دولة الاحتلال بهشاشتها وإصرارها على الحروب، رغم خذلان بعض دول المنطقة للقضية الفلسطينية واستعدادها للتطبيع.