(مجلة فتح – العدد 765)
رغم القتل والتدمير باتت فلسطين أيقونة العالم، وبات الملثّم أبو عبيدة رمزاً للمقاومة عالمياً، أما طوفان الأقصى فيحمل معه تباشير غد تنتصر فيه الإنسانية والعدالة والضمير على العدوان والإبادة والتطهير العرقي.
تشهد الجامعات الأميركية والأوروبية انتفاضة طلابية متصاعدة تأييداً لفلسطين، ورفضاً لجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني على مدار سبعة أشهر في قطاع غزة، وسط مطالبات بمقاطعة جامعاتهم أيّ تعاملات أو استثمارات أو توأمة مع الجامعات في الكيان.
ولم تنحصر بقعة الانتفاضة الطلابية في جامعات أميركية فحسب بل تمدّدت لتصل إلى جامعات أوروبية عريقة في دول أخرى مثل بريطانيا وفرنسا، كما علت أصوات نخب أكاديمية وسياسية أوروبية مطالبة بضرورة وقف حرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني ووقف دعم الكيان بالسلاح، وبدأت تمتد وتتوسّع لتصل إلى جامعات دول عربية أخرى مثل الكويت والجزائر والأردن وتركيا أيضاً.
تأتي انتفاضة الجامعات الأميركية لأكثر من خمس وسبعين جامعة أميركية في لحظة تاريخية حاسمة، في وقت تواصل فيه إدارة بايدن توفير غطاء كامل لحرب الإبادة الجماعية في غزة، وتستمرّ بتقديم الدعم المالي لـ الكيان والذي وصل إلى 26 مليار دولار، وما رافقه من دعم دبلوماسي أميركي في مختلف المحافل الدولية، ما يجعل الإدارة الأميركية متورّطة وشريكة أساسية لـ الكيان في حرب الإبادة المتواصلة في قطاع غزة.
في السياق العام، مطالب انتفاضة الجامعات هي مطالب مشروعة تندرج في سياق الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير التي كفلتها كل القوانين، وقمعها بهذه الوحشية يكشف زيف شعارات أميركا وتغنّيها بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير التي كفلتها القوانين.
ما يجري في جامعات أميركا من ثورة طلابية أكاديمية لم يعد مرتبطاً بعرق أو قومية أو دين، بل هو نتيجة تغييرات عميقة في بنية المجتمع الأميركي وتوجّهاته تجاه الاحتلال الصهيوني وحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزة، وهو نتيجة ظهور منظومة قيمية جديدة بدأت تنمو في أوساط الشباب الجامعي الرافض للاحتلال وجرائمه بحق الفلسطينيين، وتعبّر عن طبقة سئمت تبرير جرائم الإبادة والقتل ولم تعد مقتنعة بتزوير الحقيقة وصناعة الأكاذيب.
تاريخياً، ساهمت مثل هذه التظاهرات الضخمة في التأثير في مسار الحروب والسياسة الخارجية الأميركية، ومثل هذه التظاهرات الضخمة لم تحدث إلا في الحروب الكبرى، فحدثت خلال الحرب الأميركية الفيتنامية عام 1968، وفي دولة جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري، وخلال الحرب الأميركية على كل من العراق وأفغانستان.
أثر وانعكاسات مثل هذه الانتفاضة الطلابية التي تشهدها الجامعات يتجاوز بكل تأكيد أسوار الجامعات إلى ما هو أبعد من ذلك، تجاه قضايا حرية الشعوب وحقوق الإنسان وشكل العالم الجديد الذي بدأ يتشكّل بمعايير إنسانية جديدة.
انتفاضة الجامعات هي شكل من أشكال الانتصار للعدالة، وصحوة ضمير في صفوف نخبة طلابية وأكاديمية ومثقّفين لا يستهان بها، وتنمّ في الوقت ذاته عن وعي متزايد بمظلومية الشعب الفلسطيني، وهي أيضاً تكشف غوغائية الأمن الأميركي، وتفضح كلّ الذين يتبجحون بأنهم واحة الديمقراطية، وستكون لها تأثيرات على مجمل المشهد في أميركا والمنطقة، وأول تأثير لها بشكل مباشر سيلامس واقع الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة الأميركية والتي ستحرم الرئيس الأميركي من أصوات هؤلاء الشباب.
كما أنّ هذه الانتفاضة ستعمل على تشكيل رأي عام ضاغط وداعم في مناصرة أكثر لفلسطين داخل المجتمع الأميركي على الصعيد الشعبي، وستلقي بظلالها على جوهر السياسية الأميركية في المنطقة، وتكشف الفجوة الكبيرة التي أصبحت وتشكّلت بين قناعات الشعب الأميركي والتوجّهات الرسمية للإدارة الأميركية الداعمة لـ الكيان.
فينكلشتاين: أصحاب المليارات من اليهود يبتزون إدارات الجامعات
قال الأستاذ الجامعي الأميركي اليهودي المتخصص في العلوم السياسية نورمان غاري فينكلشتاين خلال إنّ «لشبّان الأميركيين يرون في غزّة نموذجاً لرفض تسلّط النظام الحالي عليهم، وهم لا يرون مستقبلاً في ظل سيطرته».
وأضاف أنّ «لكثير من الأحداث لم تكن متوقعة بعد 7 أكتوبر، وأهمها حجم المجازر في غزّة والحركة الطالبية الحالية في الولايات المتحدة”، مردفاً أنّ “الحركة الطلابية أدركت أنّ مزاعم معاداة السامية هي مجرّد ذريعة لمنع انتقاد الممارسات الإسرائيلية».
وأشار فينكلشتاين إلى أنّ «لمزاعم المزيفة بمعاداة السامية تستخدم اليوم للاعتداء على الحرية الأكاديمية»، متابعاً أنّ «اليهود يؤدون دوراً رئيسياً في التظاهرات الحالية على المستوى التنظيمي وعلى مستوى المشاركة، ولا سيما أنّ التظاهرات الأولى التي انطلق منها الحراك الطالبي نظمها اليهود».
وكشف أنّ «أصحاب المليارات من اليهود يبتزون إدارات الجامعات لاحتواء الحراك الطالبي وقمع الاحتجاجات»، مضيفاً أنّ «مجلس أمناء جامعة كولومبيا يضغط على الإدارة خوفاً من تهديدات أصحاب المليارات بوقف الاستثمارات والدعم».
عالمياً لم يشهد العالم تغييراً ملحوظاً فاعلاً ومتصاعداً ومؤثّراً على مواقف الدول الغربية مثلما شهد بعد طوفان الأقصى، ولم يعانِ الكيان الذي ساءت صورته على المستوى الدولي كما هو يعاني الآن بصورة كبيرة، والأهم في هذا السياق هو أن الكيان بات يخسر ويحاصَر على مستوى العالم وفي أوساط الشباب والنخب وصنّاع القرار، في وقت بات قادتها مهدّدين بأوامر اعتقال من محكمة العدل الدولية.
قضية فلسطين لم تُصفَّ أو تُدفن كما أراد لها البعض، ولم تُنسَ كما أراد لها المطبّعون مع الكيان، وباتت في قلوب وعقول الملايين حول العالم، وما يجري من انتفاضة الجامعات هو وجه من أوجه التغيير العالمي المرتقب، فالشباب والطلاب هم من يغيّرون نظريات الشعوب، والنتيجة الأهم في هذا المشهد هو أن الصهيونية باتت تترنّح، والعالم الجامعي في المنطقة بدأ ينتصر لفلسطين ومقاومتها وشعبها الأبي.