(عن مدار للدراسات الإسرائيلية-أنطوان شلحت)
في اليوم الـ 171 للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لوحظ أن ثمة تواتراً في تحليلات إسرائيلية تؤكد أن إسرائيل تعيش حالة من العزلة في الساحة الدولية، إنما مع وجود خلاف بائن بين من يعتقد أن هذه العزلة تنطوي على مخاطر جمّة، وبين من يُقدّر بأنها لا تزال غير خطرة.
ولا بُدّ من أن نشير إلى أنه في نهاية شباط الماضي أكد الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي مئير بن شبات، المقرّب من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، أن هذه الساحة الدولية أمست واحدة من سبع جبهات تخوض إسرائيل فيها مجتمعةً حرباً وصفها بأنها وجودية، وذلك بالإضافة إلى جبهات كل من غزة والضفة الغربية ولبنان وسورية واليمن وإيران (“يسرائيل هيوم”، 29/2/2024).
ولا تصرف معظم هذه التحليلات النظر عن مؤشرات عزلة كهذه آخذة بالتراكم على وجه الخصوص في بلدان الاتحاد الأوروبي، وفي مؤسسات هذا الاتحاد، ولا شك في أنها تحتاج إلى وقفة خاصة، لكنها تركّز أكثر من أي شيء آخر على آخر تطورات أوضاع العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة.
فمثلاً، يؤكد المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل (24/3/2024) أن الإدارة الأميركية الحاليّة التي أظهرت دعماً واضحاً لإسرائيل طوال فترة الحرب، وأبدت تسامحاً كبيراً إزاء تملّص نتنياهو من مناقشة “اليوم التالي” للحرب في القطاع، غيّرت من أسلوبها مؤخراً. هذا ما اتضح في سياق الاتصالات التي جرت مؤخراً في الأمم المتحدة حول صيغة قرار مجلس الأمن الذي يطلب إعلاناً عن وقف إطلاق النار في القطاع، كما أن طبيعة الصعوبات مع الولايات المتحدة تدل عليها الزيارات التي ستجري هذا الأسبوع إلى الولايات المتحدة من طرف مسؤولين إسرائيليين. في البداية، هناك الزيارة الطارئة التي يقوم بها حالياً وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت من أجل التوسل بتسريع تزويد الجيش الإسرائيلي بالسلاح الأميركي. بعد ذلك، تأتي زيارة وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، ورئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، بناء على طلب من الرئيس الأميركي جو بايدن من نتنياهو لأجل مناقشة العملية العسكرية في رفح والتي يلوّح هذا الأخير بشنّها بصورة شبه يومية.
في غضون ذلك زار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إسرائيل، وأجمعت تقارير وسائل الإعلام الإسرائيلية على أن لقاءه مع نتنياهو عكس ما وُصفت بأنها فجوة في المواقف العلنية بين الدولتين، إذ أعلن نتنياهو أن على الجيش الإسرائيلي دخول رفح في سبيل “تصفية بقايا كتائب حركة حماس”، وإذا عارضت الإدارة الأميركية ذلك “فستفعل إسرائيل ذلك وحدها”، أي على الرغم من معارضة أميركا. على المستوى العملي، ذكر نتنياهو أن عملية كهذه لن تبدأ في شهر رمضان وأنها عملية ستحتاج إلى إعداد طويل. في المقابل، حذر بلينكن “كابينيت الحرب” الإسرائيلي من أن إسرائيل قد تعلق فترةً طويلة في القطاع إذا لم تبلور استراتيجية خروج.
وفي أحدث تطوّر على هذا الصعيد، قالت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس إنها لا تستبعد أن تكون هناك عواقب أميركية على إسرائيل إذا ما مضت في عملية برية في رفح (مقابلة مع شبكة التلفزة الأميركية “إي بي سي”، أمس الأحد). وأشارت هاريس إلى أن المسؤولين الأميركيين أبلغوا الإسرائيليين بشكل واضح أن أي عملية عسكرية كبيرة في رفح ستكون خطأً فادحاً. كما أشارت إلى أن عدداً كبيراً جداً من الفلسطينيين الأبرياء قد قتلوا.
ووفقاً لما كتبه المحلل السياسي لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، نداف إيال، يوم الاثنين (25/3)، فإن أقوال هاريس ضد أي عملية إسرائيلية في رفح لم تأت بالصدفة. وبرأيه، بعد نحو نصف عام من وقوع “المذبحة” الأكثر ترويعاً في تاريخ الدولة التي أثارت تضامناً استثنائياً في العالم أجمع، تجد إسرائيل نفسها في خضم وضع غير مسبوق من العزلة الدولية من ناحية، وفي خضم مواجهة مع الولايات المتحدة بشأن عدة قضايا تكتيكية من ناحية أخرى. ومع أن الجانبين الأميركي والإسرائيلي يتفقان إستراتيجياً على أن حركة حماس لا ينبغي أن تحكم قطاع غزة، وعلى أنه يجب إطلاق المخطوفين الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة، وعلى أن إيران وحلفاءها يجب أن يكونوا مردوعين، فإن هذه التوافقات المهمة هي مُجرّد عناوين في أحسن الحالات وهي مجرّد شعارات في أسوئها. والأكثر أهمية، في قراءة إيال، أن هاريس شدّدت على أن كل الاحتمالات مدرجة في جدول أعمال الإدارة الأميركية ليس ضد إيران وإنما في معرض الردّ على عملية عسكرية إسرائيلية في رفح يتم شنّها خلافاً لرأي الإدارة الأميركية. وبطبيعة الحال بمقدور الأميركيين، مثلاً، أن يقللوا بشكل كبير من وتيرة شحن الأسلحة إلى إسرائيل، وأن يقدموا على تحديد شحن الأسلحة الهجومية أو حظر استخدامها. كما أن بإمكانهم إزالة القبة الحديدية الدبلوماسيّة والتخلّي عن سياسة عدم استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي. وعلى الرغم من ذلك كله فـ “ما زالت الحكومة الإسرائيلية منهمكة بالقشور وعلى نحو لا يتسم بشيء أكثر من اتسامه بالحماقة”، على حدّ تعبير إيال.
وفي الأيام القليلة الفائتة ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن تقارير داخلية لجهات ممثلة لإسرائيل في الولايات المتحدة تحدثت عن “حال شديدة الخطورة في كل ما يرتبط بتغطية وسائل الإعلام الأميركية لإسرائيل”. وجاء في أحد هذه التقارير أن وسائل الإعلام في الولايات المتحدة انتظرت إشارة من جانب الإدارة الأميركية تلمّح إلى تغيير السياسات، ووصلت هذه الإشارة فعلاً، وبمجرّد وصولها انفلتت من عقالها وتم نشر انتقادات حادّة ضد إسرائيل كانت قائمة لدى المحررين طوال الوقت. أمّا الضغوط التي تمارَس على إدارة بايدن لتصليب مواقفها تجاه إسرائيل، واشتراط الإمدادات العسكرية بتغيير السياسات الإسرائيلية، فهي ما زالت تمثل علامة تحذيرية بشأن المستقبل.
وبحسب أحد التحليلات الإسرائيلية، إذا ما أراد البعض مقارنة الأمر كما لو كنا نقف عند إشارة ضوئية فـ”إننا الآن نقف أمام إشارة برتقالية داكنة” (“يديعوت أحرونوت”، 23/3/2024). وهناك تغيير في المواقف لدى الجهات المحافظة المؤيدة لإسرائيل عادة، وبينما كان الإعلام الأميركي المحافظ يدعم في الماضي الخطوات الإسرائيلية بالكامل، بدأت تُسمع، في هذه الأيام، أصوات تشكّك في تناسبية الأعمال الحربية الإسرائيلية. ومع أنه من غير المتوقع، مؤقتاً، أن تُسمع من وسائل الإعلام هذه مطالب بوقف إطلاق النار، فإنه من دون إجراء تغيير حقيقي يطاول المسألة الإنسانية في غزة و/ أو التحدث عن آفاق لحل سياسي، فإن الانتقادات في وسائل الإعلام الأميركية ستتصاعد.
وورد أيضاً في تلك التقارير الإسرائيلية أنه في الشهر الماضي، تحولت وسائل الإعلام في الولايات المتحدة إلى صبّ اهتمامها على الأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة، إذ تم التركيز بصورة خاصة على معاناة سكان رفح في ظل إمكانات توسيع نطاق الحملة البرّية واقتحام هذه المدينة. ولقد أغرقت وسائل الإعلام الكبرى الشاشات ومانشيتات الصحف بصور الأطفال الجائعين، المصابين بالصدمة، وبأطلال المنازل والمشافي. أمّا التقارير والقصص الشخصية التي تُنقل عن رفح، فقد أثارت التعاطف تجاه المعاناة الفلسطينية، والغضب تجاه النشاط العسكري الإسرائيلي.
وإجمالاً تنوّه التقارير الإسرائيلية حول آخر التطورات في الولايات المتحدة بما يلي:
أولاً، على الرغم من أن معظم وسائل الإعلام الأميركية ما زالت تتجنّب اتهام إسرائيل بالتسبب العامد بالأزمة والحرب، ولا تنفي “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، فإن هناك جدلاً ساخناً في أعمدة الرأي بشأن تناسبية استمرار الحملة العسكرية في صورتها الحالية، وبشأن أخلاقيتها.
ثانياً، تحظى الأصوات النقدية التي كانت مُقصاة في الماضي الآن بمنصة أوسع، كما تتركز الكثير من التقارير على النطاق الهائل للأضرار الإنسانية والأذى الذي يتسبّب به للناس الأبرياء، والذي يؤكد كثير من المحللين أنه غير مُبرّر، ولا يتسّق مع القيم الأخلاقية العالمية. كما أن كتّاب أعمدة رأي معروفين بدعمهم لإسرائيل في السابق بدأوا يقرون بأن الصور الخطرة التي تترى من القطاع حول سير الأعمال العسكرية بدأت تقوّض “شرعية الحرب”.
ثالثاً، على خلفية كل ما تقدّم بدأ يتنامى خطاب واضح في أوساط كتّاب ليبراليين في الولايات المتحدة. ويرى أصحاب هذا الخطاب بالأساس أن إدارة بايدن، بواسطة سياستها المتمثلة في إمداد إسرائيل بالمعونة العسكرية والمظلة الدبلوماسية، مسؤولة بشكل غير مباشر عما آلت إليه الأوضاع، أو على الأقل يصفون هذه الإدارة بأنها قادرة على إنهاء الحرب.
لعل الدلالة الأهم من هذا العرض هو ما إذا كانت كل التطوّرات السالفة سوف ترتبط بالحدث التالي لتطورات الحرب الإسرائيلية، وبالأخص إلى ناحية إنهائها ووقف معاناة الأهل في قطاع غزة والتي فاقت كل التصوّرات؟
(إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز الإعلام والدراسات الفلسطينية، وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصرا)