(مجلة فتح العدد – 764)
تبدو الولايات المتحدة منشغلة بالعمل على إقناع كلّ الأطراف المعنية بأهمية التوصل إلى «هدنة إنسانية طويلة الأجل»، ليس كونها هدفاً مطلوباً، في حد ذاته، وإنما كونها خطوة ضرورية في طريق شاق يجب أن يُفضي إلى تسوية شاملة للصراع العربي الصهيوني.
حسن نافعة
أدلى مسؤولون أميركيون كبار، بدءاً بالرئيس جو بايدن نفسه وانتهاء بوليام بيرنز، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية، مروراً بكل من أنتوني بلينكن وزير الخارجية وجاك سوليفان مستشار الأمن القومي، بتصريحات متعددة في الآونة الأخيرة، تعكس قناعة واضحة لدى الإدارة الأميركية الحالية بتوافر فرصة حقيقية في المرحلة الراهنة تشجع على “دمج إسرائيل في المنطقة”، وذلك في إطار عملية متدرجة تبدأ بالتوصل إلى “هدنة إنسانية” طويلة، يمكن خلالها إنجاز عملية تبادل الأسرى والشروع في الوقت نفسه في إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، على نحو يسمح بنزع فتيل الأزمة الراهنة، وتنتهي بفتح آفاق جديدة لتسوية نهائية للقضية الفلسطينية، بالتزامن مع دمج “إسرائيل” في المنطقة.
لذا، تبدو الولايات المتحدة منشغلة، في هذه الأيام، بالعمل على إقناع كلّ الأطراف المعنية بأهمية التوصل إلى “هدنة إنسانية طويلة الأجل”، ليس كونها هدفاً مطلوباً، في حد ذاته، وإنما كونها خطوة أولى وضرورية في طريق طويل وشاق يجب أن يُفضي في النهاية إلى تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي، في كل أبعاده.
يلفت النظر هنا أن إدارة بايدن بدأت تستخدم مصطلح “دمج إسرائيل في المنطقة” بدلاً من مصطلح “تطبيع العلاقة بالدول العربية”، وهو أمر لا تخفى دلالته، إذ يبدو أن مصطلح “التطبيع” لم يعد يفي بالغرض المطلوب، لأنه قد يعني مجرد إنهاء حالة الحرب وإقامة علاقات شكلية تقوم على فكرة الندية، وتحكمها قاعدة المساواة السيادية بين الدول.
ولأن لـ”إسرائيل” تجربة سابقة مع مصر في مجال “التطبيع”، جرت عقب توصل البلدين إلى معاهدة “سلام” بينهما عام 1979 من دون أن تسفر عن أي نقلة نوعية في العلاقات بين البلدين، يبدو أن الولايات المتحدة باتت مقتنعة بأن السلام الحقيقي بين الدول العربية و”إسرائيل” لن يتحقق إلّا عبر باستخدام وسائل أخرى أكثر فعّالية. أمّا مصطلح “الدمج” فله أبعاد متعددة، لأن الكيان المطلوب إدماجه في منطقة أوسع من حدوده الطبيعية يجب أن يصبح جزءاً لا يتجزأ من نسيج هذه المنطقة، التي يجب أن يكون لدى مختلف مكوناتها رؤية مشتركة لتحقيق الأمن والازدهار فيها.
كي يتحقق “دمج إسرائيل في المنطقة”، وفق المعنى الذي تطمح إليه إدارة بايدن، يمكن تصور أن يتم ذلك، نظرياً على الأقل، من خلال ثلاثة مسارات متعددة.
المسار الأول: يتطلب حدوث تغيرات داخل “الدولة” المطلوب دمجها لتصبح قادرة على التكيف مع السمات الثقافية والحضارية للمحيط الذي تسعى للاندماج فيه.
المسار الثاني: يتطلب حدوث تغيرات داخل مكونات المحيط نفسه كي يصبح قادراً على التكيف مع واقع جديد تفرضه موازين القوى الجديدة الناجمة عن عملية الدمج.
المسار الثالث: يتطلب حدوث تغييرات متبادلة على الجانبين، تأخذ في حسبانها مصالح جميع الأطراف وتساعد على إفراز واقع جديد يمكن للجميع أن يتعايشوا في إطاره. ولأنها تدرك حجم الصعوبات التي تعترض طريق الحركة الذاتية على أي من هذه المسارات الثلاثة، يبدو أن إدارة بايدن باتت مقتنعة بأن عملية “الدمج” المطلوبة لن تنجح إلّا إذا توافر لها شرطان، الأول: أن تقودها بنفسها، وبالتالي أن تصبح أحد مكوناتها، والثاني: ربطها عضوياً بالأهداف التي ينبغي للولايات المتحدة أن تسعى لتحقيقها على صعيد النظام العالمي، في وقت تشتد المنافسة بينها وبين كل من الصين وروسيا الاتحادية.
قبل اندلاع “طوفان الأقصى”، في 7 تشرين أول/أكتوبر الماضي، كانت إدارة بايدن تبدو منشغلة، أكثر من أي شيء آخر، بتطبيع العلاقة بين “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية، من منطلق أن النجاح في تحقيق هذا الهدف سوف يؤدي تلقائياً إلى فتح آفاق واسعة نحو “دمج إسرائيل في المنطقة”.
ولأن السعودية اشترطت للإقدام على خطوة بهذا الحجم أن تبرم الولايات المتحدة معها معاهدة دفاع جماعي، على غرار المعاهدة التي تربطها بالدول الأعضاء في حلف الناتو، وأن تساعدها، في الوقت نفسه، على بناء برنامج نووي سلمي يماثل البرنامج النووي الإيراني، اعتقدت إدارة بايدن أن موافقتها، من حيث المبدأ على هذين الشرطين، سيساعد على تحريك المياه الراكدة في أنهار الشرق الأوسط، غير أن عملية “طوفان الأقصى” سرعان ما أطاحت هذه الأحلام، وأعادت تذكير الجميع باستحالة القفز فوق القضية الفلسطينية.
لذا، بدأت هذه الإدارة تواجه تحديات جديدة في المرحلة الراهنة تفرض عليها التحرك في عدة جبهات، في الوقت نفسه. فهي في حاجة ماسّة، أولا، إلى هدنة طويلة المدى لتفادي وقوع كارثة إنسانية كبرى، وخصوصاً أن “إسرائيل” تُصرّ على اجتياح رفح التي يقطنها حالياً ما يقرب من مليون ونصف مليون فلسطيني. وهي في حاجة ماسّة، ثانياً، إلى إبرام صفقة لتبادل الأسرى، تضمن الإفراج عن جميع الأسرى المحتجزين في القطاع. وهي في حاجة ماسة، ثالثا، إلى عملية سياسية جديدة في المنطقة، تضمن استبعاد حماس عن أداء أي دور في إدارة الشأن الفلسطيني في “مرحلة ما بعد الطوفان”. وفي سياق البحث عن مخرج من كل هذه الإشكاليات، يبدو أن إدارة بايدن لم تعثر إلا على أفكار قديمة تسعى الآن لتغلفتها وإعادة تسويقها في عبوة جديدة.
يشير بعض الأنباء والتعليقات المتداولة حالياً، في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أن إدارة بايدن تفكر جديا في العمل على إعادة إحياء تحالف قديم، كانت إدارة ترامب سعت لإقامته في إبان فترة توليها السلطة، يُطلق عليه “تحالف ميسا”، أو “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي”، ويضم دول مجلس التعاون الخليجي الست، بالإضافة إلى مصر والأردن و”إسرائيل”، ويفترض أن تقوده الولايات المتحدة بنفسها. ويبدو أنها بدأت تقتنع بالفعل بأن تحالفاً من هذا النوع يمكن أن يكون مؤهَّلاً بصورة أفضل لحل معضلات كثيرة راحت تفرض نفسها في المرحلة الراهنة، ليس على صعيد منطقة الشرق الأوسط فحسب، وإنما أيضاً على صعيد التحولات الاستراتيجية التي يمر فيها النظام العالمي ككل.
فعلى صعيد المنطقة تعتقد إدارة بايدن أنه يمكن لتحالف من هذا النوع سد الاحتياجات الأمنية المطلوبة بإلحاح من جانب بعض دول المنطقة، وخصوصاً “إسرائيل” والسعودية، في حال الموافقة على إبرام معاهدة دفاع مشترك على غرار المعاهدة التي تربط الولايات المتحدة بالدول الأطراف في حلف الناتو، وذلك في مقابل الانخراط النشط لكل من مصر والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي في جميع الترتيبات المتعلقة بإدارة “مرحلة ما بعد حرب غزة”، والتي تشمل:
1- بذل الجهود اللازمة للتوصل إلى هُدَن طويلة الأجل وقابلة للتمديد؛ 2- توفير الموارد اللازمة لإعادة إعمار غزة؛ 3- المساهمة في إدارة المرحلة الانتقالية في غزة بطريقة تضمن عدم مشاركة حماس؛ 4- القيام بالأدوار المطلوبة لضمان تجديد الأجهزة والقيادات في منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسات السلطة الفلسطينية؛ 5- المشاركة في الجهود الرامية إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية فلسطينية ذات صدقية وقدرة على إفراز حكومة تتولى إدارة الدولة الفلسطينية المأمولة.
وعلى الصعيد العالمي، تعتقد إدارة بايدن أن نجاحها في إقامة هذا التحالف يمكن أن يساعد الولايات المتحدة والغرب، عبر عدد من المزايا الاستراتيجية الحاسمة والمفيدة، في سياق التنافس الجيوسياسي المحتدم مع كل من الصين وروسيا الاتحادية، أهمها: 1- ضمان بقاء المنطقة الممتدة من الخليج حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط تحت الهيمنة الغربية، الأمر الذي يوفر ممراً تجارياً بديلاً يربط بين الهند وأوروبا الغربية، وقادر على الحد من المزايا التي يوفرها مشروع “الحزام والطريق” للصين؛ 2- المساعدة على تضييق الحصار المضروب حول إيران، والعمل على تعويق قدرتها على التمدد والحركة وتوسيع النفوذ في المنطقة، وهو هدف تسعى له “إسرائيل” بإلحاح، وخصوصا بعد أن أصبحت إيران دولة “عتبة نووية” ترى “إسرائيل” أنها باتت تشكل تهديداً وجودياً لها؛ 3- إتاحة فرصة أوسع أمام الغرب للتأثير في أسعار النفط العالمية، وهي مسألة شديدة الحساسية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، وبصورة خاصة بالنسبة إلى الاقتصاد الروسي. ويبدو أن إدارة بايدن بدأت تدرك مؤخراً، بعد عملية “طوفان الأقصى”، أن تحقيق النصر في معركة التنافس الاستراتيجي مع روسيا والصين لا يكون بالانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، وإنما بالانخراط في شؤونها أكثر، على النحو الذي يحقق المصالح الأميركية والإسرائيلية، في الوقت نفسه.
غير أن الرغبة شيء والقدرة على تحقيقها شيء آخر. فمن الواضح أن القدرة على بناء تحالف إقليمي يستهدف دمج “إسرائيل” في منطقة الشرق الأوسط، وتقوده الولايات المتحدة بنفسها، تبدو محدودة جداً، إن لم تكن منعدمة، وذلك نتيجة سببين رئيسين:
الأول: يتعلق بالداخل الإسرائيلي. فلا توجد في “إسرائيل” حالياً، ولا يُتوقَّع أن توجد في المستقبل القريب، قيادة إسرائيلية تقبل قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وهو الحد الأدنى المطلوب فلسطينياً وعربياً لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
الثاني: يتعلق بأوضاع المنطقة وأزماتها المتداخلة عضوياً. فأي تحالف إقليمي في هذه المنطقة الحساسة من العالم لا يمكن أن ينجح إلّا إن كان نابعاً من داخل المنطقة نفسها، ويستهدف تحقيق الاستقرار لدولها وشعوبها، وليس تشكيل محاور متصارعة.
ولأن الهدف المضمَر من “تحالف ميسا”، إذا صح ما يقال عن رغبة إدارة بايدن في إعادة إحيائه، هو عزل إيران وإضعاف النفوذين الصيني والروسي في المنطقة، وليس “دمج إسرائيل في المنطقة” فحسب، فمن المؤكد أن مصيره سيكون الفشل التام.